منى ابوزيد

في الطيور والأقفاص ..!


«قبل أن أتزوج كان لدي ست نظريات في تربية الأطفال، أما الآن فعندي ستة أطفال وليس عندي نظريات لهم» .. جان جاك روسو ..!
* مثل سكين حادة – التي تشطر كتلة متجانسة من الزبد إلى قطعتين متباعدتين – يقطع قرار الاغتراب خارج الوطن الكثير من الأواصر العائلية، ويؤثر سلباً على طبيعة العلاقة بين أبناء الجيل الأول من المغتربين وأسرهم الممتدة في أقاليم السودان المترامية .. شاء المغتربون أم أبوا يبقى فتور العلاقات العاطفية بين آبائهم وإخوانهم وأخواتهم في أرض الوطن وأبنائهم المولودين في بلاد الغربة هو الثمن الباهظ الذي يدفعونه – مكرهين لا أبطال – مقابل بقائهم الطويل خارج الوطن .. والنتيجة حزمة اتهامات موجهة من جهة، وجملة مظالم مرفوعة من جهة أخرى ..!
* في مناقشة إسفيرية حول هذه القضية رأى بعض المغتربين أن أكبر مشكلة ستواجه المغتربين في المستقبل القريب هي غياب الهوية السودانية عند أغلب الشباب، فالجيل الثاني – بحسبهم – مكشوف وعرضة لاستلاب كامل إذا ما تسللت بعض المفاهيم السالبة وتمكنت من قناعاته .. وقال بعضهم إن الاستسلام لنوازع الغربة وغياب دور الأب والأم في الإعداد الوجداني لأطفالهم هو السبب، فهنالك تلاميذ صغار يخفون جنسيتهم خجلاً، من الاعتراف بالهوية السودانية لأنهم يتعرضون للكثير من السخرية والتندر من بعض أقرانهم الذين ينعتون السودانيين بأوصاف محرجة ويقلدون طريقة كلامهم بسخرية واستهتار ويتحدثون عن كسلهم ويرددون النكات التي ترسخ تلك الصورة في أذهان أبنائنا ..!
ربما خوفاً من مثل هذه الأفكار روى أبو عوض حكايته مع أبنائه قائلاً (.. دخلت مرة إلى غرفة الأولاد فوجدت الولدين الكبيرين يتحدثان مع بعضهما بلهجة بدوية لم أفهمها، فذهبت فوراً إلى السوق واشتريت طبقا وجهاز استقبال وعدت إلى البيت وقلت لأم العيال لن تشتغل أي قناة في هذا البيت سوى القناة الفضائية السودانية حتى إشعار آخر، وبالفعل بدأنا في تطبيق هذه الخطة وبدأنا نزور السودان سنوياً، وعندما وصل الأبناء المرحلة المتوسطة قمت بتحويلهم إلى التعليم بالسودان وباتوا يأتون فقط في الإجازات “خروج وعودة”، والآن من يراهم لا يكاد يصدق، أنا اليوم أب لرجال يمكن الاعتماد عليهم في تصريف شؤون الحياة، رجال من أبناء المغتربين ..)
وقد فاجأ أحد أبناء المغتربين المتداخلين بقوله (.. تربيت في السعودية واعتبرها وطني الأم كغيري ممن عاشوا بها سنين ونعموا بخيراتها وأمنها وتعاملها الإنساني مع البشر، أما عن مشاعري نحو بلادي فكيف تطلبون الوطنية من أبناء المغتربين الذين دفعوا الكثير والغالي والنفيس من أجل لقمة عيش هانئة بعيداً عن إجحاف قوانين الوطن، كيف للوطنية أن تجد مكاناً في قلوب أبناء المغتربين وهم يجابهون التفرقة العلنية في التقييم الأكاديمي، فضلا عن ارتفاع رسوم الجامعات والكليات والمعاهد العليا ..) ..!
ولعل السبب في تعميق الفجوة الأكاديمية بين أبناء المغتربين ومؤسسات التعليم العالي في السودان هو بعض المسلمات الخاطئة، والتي منها أن مناهجنا الدراسية هي الأفضل، أو على الأقل هذا ما يردده الذين يتحدثون عن أفضلية المناهج الدراسية السودانية على غيرها من مناهج الدول العربية الأخرى ..والحقيقة أننا لسنا الأفضل ولا هم يحزنون، والعرب الذين نغترب في بلادهم ليسوا كما نظن، ومناهجهم الدراسية قوية ودسمة وقطعت شوطاً مقدراً في الوصول إلى معايير المنهج الدراسي المثالي ..!
البروفيسور محمد عبد الله الريح أعادنا إلى ملعب الأسرة الممتدة بقوله (.. إن الحل لمعظم إشكالات الهوية ــ التي تقض مضاجع آباء الجيل الثاني من المغتربين ــ يكمن في توثيق الصلة بين أولئك الأبناء وأهلهم وأقاربهم في السودان! ..)
أيها المغتربون .. افتحوا أبواب الأقفاص .. شجعوا أبناءكم على التحليق مع الجماعة .. ذكروهم دوماً بفضائل التغريد من داخل السرب ..!