أبشر الماحي الصائم

التغطية مستمرة


* لا أعرف محاوراً إعلامياً عربيا له القدرة في السيطرة على ضيوفه، وجعلهم تماماً تحت سطوته وقبضته المهنية، مثلما يفعل المحاور البارع التلفزيوني أحمد منصور بقناة الجزيرة، مستفيداً في صناعة ذلك (الطغيان البرامجي) من معلوماته الواسعة المتدفقة وتحضيره الجيد، فقد تستغرق فترة إعداده لحلقات برنامجه (شاهد على العصر) عاماً بأكمله، يقرأ خلاله كل الكتب ذات الصلة ويحيط بكل المعلومات التي تتعلق بضيف البرنامج !!
* إلا في حالة حلقات الدكتور الترابي، بحيث بدا أحمد منصور – ربما لأول مرة – متواضعاً جدا، فاقداً سيطرته المشهودة على الضيف وهيمنته المعهودة على مسار الحوار، بحيث احتاج منصور مرات عديدة خلال مجريات الحلقة لإعادة الحوار إلى مساره الطبيعي، وذلك لكثرة تشعبات معلومات الضيف ذو الأفق والاطلاع والتجارب الواسعة !!
* فالذين يتابعون (برنامج شاهد على العصر) يعرفون جيدا طبيعة البرنامج التوثيقي، غير أنه في حالة المفكر الضخم الشيخ الراحل الترابي، بدا كما لو أن البرنامج يترك مهمته الأصلية أكثر من مرة، ويضطر إلى الاستماع إلى (الشيخ المعلم) !! بحيث بدا الأستاذ أحمد منصور كما لو أنه تلميذ صغير في حضرة معلم كبير !!
* حزنت كثيرا وأحمد منصور يجر ضيفه جراً ليخرجه عن مساق علمي مهم لمسار تاريخي، كأن يقول له نعود إلى واقعة وتاريخ عودتك من باريس!! والرجل لحظتئذ مستغرق في توصيف الحياة الفرنسية المفتوحة !!
* ومبعث حزني هو أن هذه الحلقات كانت يمكن أن تكون بمثابة الفرصة الوحيدة والأخيرة، التي يمكن أن يطلع فيها الناس على مجمل أفكار وتجارب الدكتور الترابي الضخمة، الذي أزعم أنه قد رحل عن هذه الفانية ولم نوثق لعشرة بالمائة من ما يكن ويملك من علم وتجارب ورؤى، فعلى الأقل أنا لأول مرة أعرف (تجربته الأمريكية) طالما وقفنا على تجربته ودراسته الفرنسية والبريطانية !! فلا غرو ونحن ننتمي إلى أمة شفاهية بامتياز تاريخها بين الصدور والقبور !!
* حزنت أيضاً (لفضائياتنا الغنائية) التي كان بإمكانها أن تضيف إلى المكتبة السودانية عطاء قامة قل أن يجود الزمان بمثلها !!
* ربما الآن فقط يدرك العالم، الشرقي منه والغربي، شيئاً يسيراً من هذا البحر الزاخر، بحيث لم يكن الدكتور حسن عبدالله الترابي مجرد (شيخ دين إسلامي) فحسب، بل هو من طاف أرجاء العالم وعرف لغاته وعاشر شعوبه وعرف تاريخها وأمزجتها وتطلعاتها !!
* شيء آخر ربما ينال من مهنية البرنامج، وهو أن السيد أحمد منصور الذي يعيش اللحظة التاريخية هذه، غبنا عظيماً تجاه (عسكر مصر)، وهو يعتبر أنهم يصادرون مصر بحالها فضلاً عن بيته بالقاهرة !! فطفق مرات عديدة يسقط ذلك الشعور على حلقات البرنامج، الذي بطبيعة الحالة السودانية تطوف على عبود وسيعبر لا محالة على (جسور الإنقاذ) وقبلها النميري.. فالعسكر هنا ليسوا كلهم شراً، فعلى الأقل أن مكتسباتنا المادية على شحها قد صنعت على حين لحظة عسكر!! ولنا عودة بحول الله وقوته..