مقالات متنوعة

احمد يوسف التاي : أمة الإهدار”


عندما أتذكر الدراسة التي أعدها البروفيسور هادي التجاني والتي توصل فيها إلى أن نسبة الإهدار في السودان 98% لم أعد أستغرب ما يحدث في البلاد من بؤس ضرب كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، هذه النسبة المخجلة والتي لا أظن أن بلاداً أخرى في العالم وصلتها أو ستصلها، هي التي تفسر لنا أسباب ذلك البؤس العقيم الذي ابتلع كل شيء ولم يستبق شيئاً .
أتذكر نسبة الإهدار الـ”98%” عندما أسمع أن هناك موظفين ومسؤولين كباراً في كثير من مؤسسات الدولة بلا مهام ولا أعباء، وعلى سبيل المثال، ما ذكرته بدرية سليمان أمس حينما انتقدت هياكل البرلمان وأشارت إلى أن هناك “45” وظيفة بالبرلمان بدون مهام، وهل أنت بحاجة أيها القارئ الكريم إلى أن أذكرك بالإهدار الذي يحدث حتى في وظيفة كبير مساعدي الرئيس حالياً، سابقاً، ألم تكن وظيفة بمخصصات كبرى بلا مهام وبلا أداء؟! وهذا بلا شك يمثل قمة الإهدار للمال العام، وللوقت والطاقات، والموارد.
فإذا كانت الدولة في مؤسسة واحدة هي البرلمان، تصرف مرتبات وحوافز وبدلات ومخصصات لـ”45″ موظفاً بدون مهام، فكم هو عدد “العاطلين” الذين أوجدت لهم وظائف عن طريق المحسوبية والترضيات والمجاملات وشراء الولاء دون أن تكون لهم أعباء أو منتوج يدفع عجلة الإنتاج والتنمية.
وأتذكر نسبة الإهدار الـ”98%” عندما أسمع من الرسميين وهم يكتشفون فجأة أن عدداً من الأموات لا يزالون بكشوفات المرتبات في عدد من المؤسسات، تصرف لهم الدولة الأجور والحوافز والبدلات وهم عظام نخرة تحت الأرض، والفرق بينهم والأحياء الذين يتمتعون بذات المزايا أن زملاءهم “الأحياء” على ظهر الأرض وهم في باطنها، وكلهم تصرف عليهم الدولة من مال الشعب، بلا مقابل من إنتاج أو عطاء.
أتذكر نسبة الإهدار الـ”98%” عندما أسمع وزير الصحة بالخرطوم البروفيسور مأمون حميدة يثور ويغضب بسبب حوافز بالمليارات تصرف لمن أسماهم “ناس ما شغالين”..
أتذكر نسبة الـ”98%” عندما أسمع الاعترافات المرة لوزير الصناعة الدكتور محمد يوسف وهو يقول: إن الطاقة الإنتاجية لأكبر مصنع سكر في السودان “450” ألف طن ولكنه لا يعمل إلا بطاقة “80” ألفاً.
وأتذكر نسبة الـ”98% أيضاً عندما يعترف الوزير نفسه بأن مساحة الأراضي الزراعية لمصنع سكر النيل الأبيض تبلغ “106” ألف فدان، ويتأسف أن هذه الأراضي توجد بها مشكلة ملوحة تجعل إنتاجيتها أقل من نصف إنتاجية أراضي مصنع كنانة الأقل مساحة، وفضلاً عن ذلك فهو يقر بأن الدراسة التي سبقت قيام المصنع لم تكن موفقة.. يعني أن عملاً كبيراً أهدرت فيه الأموال الضخمة، والجهد الكبير والوقت الثمين لكن بدون فائدة..
أتذكر نسبة الـ98%” عندما أسمع أن مسؤولاً كبيراً ذهب بموكبه وجيشه الجرار وأركان حربه و”المعازيم” من الصحافيين وغيرهم لافتتاح منشأة صغيرة تم ترميمها وصيانتها فقط لا أكثر.
أتذكر نسبة الإهدار الـ98%” أعلاه عندما أقرأ اعترافات المدير العام لهيئة المياه بالنيل الأبيض محمد يحيى بأن مشروعات حصاد المياه التي أقامتها وزارة الكهرباء والسدود في الجبلين للاستخدام الآدمي والحيواني، غير صالحة لا للبشر ولا الحيوان، لأن المشروع لم تسبقه دراسة التربة، وقد كشف عن هذه الحقيقة الصادمة بعد إهدار مبالغ ضخمة والوقت الثمين والجهد الكبير في قيام المشروع…
إن كان ثمة قول، فأقول: يجب أن نتصالح مع حقيقة أننا شعب وحكومة نهدر كل شيء، المال والوقت والجهد والموارد والطاقات فيما لا يفيد بل فيما يعود علينا أحياناً بالضرر، يجب أن نتصالح مع هذه الحقيقة ونعترف بها، لأن الاعتراف بالمشكلة هو البداية الصحيحة للحل.