سعد الدين إبراهيم

واحتاس جرقاس


رأست تحرير ست صحف تقريباً ولم أستطع تحقيق حلم رأيته من البساطة بمكان
أن نبدع صفحة أسبوعياً ثم تتحول إلى يومية عنوانها (الأخبار السعيدة).. وأن
تصطاد مثل تلك الأخبار المفرحة انخفاض الأسعار.. الزيجات السعيدة مقابل
حالات الطلاق.. تجارب أمانة البعض عوضاً عن أخبار خيانة الأمانة.. وفشلت
وكل المحررين الذين أوكلت لهم ذلك فشلوا بحسبان أن القارئ لا يريد تلك
الأخبار السعيدة يحب أخبار الجرائم والكوارث والشعوذة.. لكنه لا يحفل
بأخبار باردة. ربما يرى القراء أن الأخبار السعيدة من طبيعة الحياة ولا
تلفت النظر. وقرأت في إحدى أفكار الكاتب المصري العريق الراحل “علي أمين”
أن أحد الناشرين في الغرب انشأ صحيفة اسمها (الأخبار السعيدة)، وكانت
سياستها التحريرية تنشر فقط الأخبار السعيدة، وذكر أن مشروعه فشل فشلاَ
ذريعاً.. وتلاشت الصحيفة ولم تقم لها قائمة حتى يومنا هذا.. فهل أصبح
المجال والفضاء الخيري لا يحتمل سوى أخبار الشقاء والجريمة والقتل
والسرقة والإرهاب والكوارث.. ذلك ما جعل فضاء الاسفير يمتلئ بالذم
والهجاء وأخبار الفضائح والإشارة إلى هفوات الناس لا إلى انجازاتهم..
ويقال عن محبة الناس والناشرين للأخبار القاسية إن المحرر قال لمدير
التحرير إن لدينا خبراً عن تصادم بص وعربة، فسأله كم عدد الموتى؟ فقال أكثر
من ثلاثين فلم يملك إلا أن يقول له دون وعي: “فري قود”.
وحكى الموسيقي “عبيد السنباطي” عن فنان ارتبط بحفلين ذات خميس ناسياً وفي اليوم كان في ورطة لا يعرف كيف يتخارج منها فجاءه أهل واحدة من الحفلات وقالوا له في
حزن والد العريس أتوفى ولغينا الحفلة فلم يكن منه إلا أن صاح جميل جداً
أقصد البركة فيكم.. نشر “نجم الدين قناوي” ذات مرة خبراً من أطرف أخبار
المحاكم.. وذلك أن شاكية لرجل عليه دين لها لم يسدده.. وبعد عدة جلسات
أحب المتهم الشاكية فعرض عليها الزواج فوافقت، وطبعاً أصبح الدين بين زوج
وزوجته.. فقال لي أنت الوحيد الذي لفت نظره الخبر لأنه انتهى نهاية
سعيدة لم يلفت نظر أحد.. كنت في صحيفة (الحياة والناس) فقد كلفت الأستاذة
“روضة الحلاوي” بما يسمى أخبار الحلة وتعمد إلى نشر خبر بعنوان (خبر السرور)
وآخر بعنوان (خبر التاباني).. الناس كانوا يهتمون بـ(خبر التاباني) الذي
يتضمن شجاراً بين ناس الحلة.. أو قطيعة.. أو مشكلة طلاق أو غيره من
الأخبار غير السارة ولا يحفلون بخبر السرور رغم أنه يكون عن نجاح أو
اختراع أو عمل خير.
اضرب المشاهد العربي عن المسلسلات المصرية لأنها أصبحت تستلهم ثورات
الربيع العربي، ووجه الربيع المصري التأليف إلى مواضيع جادة وهادفة، لكنهم
يحنون إلى مسلسلات العمدة الظالم والمخدرات.. والجرائم وعلى الأقل
الصراع الطبقي والاجتماعي والفكري الذي برع في تأليفه الراحل المقيم
أستاذي “أسامة أنور عكاشة”.. ومقولة “إذا عض كلب رجلاً فهذا ليس خبراً..
إذا عض الرجل كلباً هذا هو الخبر” لم تعد صالحة فأخبار الكلاب الضآلة
راجت ذات مرة وأزعجت الناس حتى أنتجت حملة إبادة للكلاب الضآلة والأليفة.. وعانت الكلاب حينها معاناة حقيقية واحتاس جرقاس!