رأي ومقالات

مثلث التكامل الحضارى: مصر – السودان – إثيوبيا


قُدِّر لى أن أشهد فى الفترة الأخيرة لقاءً ثقافيا فى رحاب مؤسستنا العتيدة (معهد التخطيط القومى) تضّمن عرضاً ومناقشة

حول تقرير أصدره أحد معاهد البحث الأمريكية الكبرى (MIT) عام 2014 بشأن مشروع «سد النهضة الإثيوبى الكبير» GERD وآثاره على مصر والسودان بصفة خاصة.

كشف العرض التحليلى للتقرير، الذى قدمه أحد زملائنا المتخصصين، وما تلاه من حوار ثريّ بين الحضور، عن مشاهد مستقبلية متصورة تتراوح بين التفاؤل (النسبى) والتشاؤم (الشديد)، من وجهة نظر المصالح المصرية بالذات.

و لا يعنى «التفاؤل النسبى» تحقيق منفعة ما للجانب المصرى، وإنما تحقيق ضرر جزئى يمكن تحمّله مثل تزايد ملوحة الأرض الزراعية بفعل نقص المياه اللازمة للصرف الزراعى و «غسل التربة»؛ فالضرر، بشكل أو بآخر، هو أمر واقع فى معظم الأحوال. كما لا يعنى «التشاؤم الشديد» انهيار تاما لمنظومة الرىّ والزراعة المصرية، ولكن ترتّب آثار وخيمة مثل احتمال (تبوير) قرابة مليون فدان من الأرض الزراعية، جراء نقص المياه الواردة وخاصة فى فترات الجفاف المتوقعة فى منطقة القرن الإفريقى والهضبة الإثيوبية جراء انخفاض معدلات التساقط المطرىّ، ومثل حدوث نوع من الجفاف لـبحيرة ناصر خلف السد العالي، بفعل انتقال مركز التخزين الرئيسى لمياه النيل والنيل الأزرق من هذه البحيرة إلى منطقة السد الإثيوبى الكبير.

ومن الآثار ذات الطابع (التشاؤمى الخفيف) إذا صحّ التعبير، حدوث نقص متوقع فى (إيراد المياه) القادم إلى مصر، خلال فترة ملء السد الإثيوبى (3-5 سنوات) وخاصة خلال السنة الأولى، بأقل من الحصة المعتادة فى ظل اتفاقية مياه النيل بين مصر والسودان لعام 1959 (55 مليار متر مكعب) بعد أن تم استرداد السودان لمياه «السلفة المستديمة» التى كانت تنصرف إلى مصر بفعل عدم احتياج السودان إليها فى المراحل السابقة (22 مليار متر مكعب). ويشتد هذا الأثر بفعل الطبيعة التصميمية للسد الإثيوبى، والتى تقتضى اكتمال ملء السد كشرط لانسياب الماء اللازم لتشغيل توربينات الكهرباء، وعدم وجود فتحات كبيرة سفلية لتشغيلها على نحو ما يتم فى «سد أسوان العالى»؛ وإنما يتدفق الماء من أعلى السد إلى أسفله بعد إتمام الملء. و يعنى هذا أن الطرف الإثيوبى لن يستطيع توريد مزيد من المياه فى حالة الضرورة إلا بمقدار ما تسمح به الفتحات الضيقة أسفل السّد، وهو ما دفع الجانب المصرى إلى اقتراح إنشاء فتحات كبيرة فى الجسم السفلى لهذا السد .

وعلى الجانب الإثيوبى نفسه، تتضح جوانب سلبية محتملة أو مؤكدة، لاسيما ارتفاع التكلفة النسبية فى ضوء الجدوى المتوقعة، وخاصة عقب الزيادة التى طرأت على ارتفاع السّد بعد 2011، وأن الطاقة الكهربائية الكبيرة المولدة «الفائضة» سوف تتوجه إلى دول الجوار الإفريقى مما يستلزم عقد اتفاقات مع هذه الدول بالخصوص، وإنشاء خطوط النقل والتوزيع إليها – بما فيها مصر – وهو ما لم يتم حتى الآن ، مما سوف يعطّل التصرف فى المياه المحتجزة خلف السّد ، بما فيه التصرف تجاه مصر والسودان .

ولئن كانت السودان مستفيدة جزئيا، بفعل توقع انتهاء ظاهرة الإطماء داخل الحدود السودانية بتكلفتها الاقتصادية الباهظة، بالإضافة إلى توفر مورد رخيص نسبيا للطاقة الكهرومائية ، إلا أن من المحتمل بدرجة عالية أن تتضرر السودان فى فترات الجفاف.

وعلى الجانب الإثيوبى أيضا، إضافة إلى ارتفاع التكلفة، وعدم ضمان العوائد المتوقعة بشكل مؤكد، فى ضوء احتمالات التعقيد فى اتفاقات بيع الكهرباء وتوزيعها على المستوى الإفريقى، فإن حدوث زلازل قوية يمكن أن يكون من شأنها التأثير على جسم السّد المنشأ كسد ركامى، مما يرفع مخاطر الانهيار الجزئى أو الكامل (فى حالة السيناريو التشاؤمى الشديد)، وخاصة باتجاه الأراضى السودانية .

فماذا عسى مصر أن تفعل لتوقّى الآثار المحتملة بأطيافها (التفاؤلية المعتدلة) و (التشاؤمية المفرطة) ؟

هذا هو السؤال العتيد الذى حارت بشأنه ألباب الدولة المصرية بعد الثلاثين من يونيو 2013، مع استبعادها الصارم – المستحق – لخيار «المواجهة العدائية» مع إثيوبيا، الخيار الانتحارى إذا صح التعبير، والذى رفعه البعض خلال سنة (حكم الإخوان المسلمين) من يونيو 2012-2013.

وقد خاضت الدولة المصرية بأدواتها المتاحة خيار التفاوض بكل أطيافه ودرجاته، ومساراته، مع التسلح بطول النّفس وبالهدوء الذى يليق بمفاوض مسئول، وإن كان زائدا عن الحد فى بعض الأحايين. كما حارت بشأن السؤال ذاته ألباب جهات البحث المصرية والباحثين الأفراد. فماذا نحن فاعلون…؟

فلنستبعد نحن أيضا، منذ البداية، الخيار «الانتحارى» المتعلق بالمواجهة العدائية، ناهيك عن المواجهة «المسلحة» ولنركز على الخيارات الأخرى. ولنتفق على أن الأولوية الأولى هى للتفاوض وفق المسار الثلاثى الراهن. ولنتفق أيضا على أن «الأولوية الثانية» (ثانى أفضل بديل Second -best Alternative) هى لخيار التسوية الودية، عبر أساليب الوساطة والتوفيق والتحكيم فى إطار «الاتحاد الإفريقى» وآلياته لتسوية المنازعات بالطرق السلمية.

فلنتفق على ذلك كله ، ولكن فليكنْ معلوماً أن هذه البدائل جميعاً تتعلق بالأجلين القصير والمتوسط؛ أما على الأجل الطويل (عشر سنوات فأكثر) ومع الأخذ فى الاعتبار تعقيدات اختلاف الآثار السلبية المتوقعة على الأطراف الثلاثة المعنية مباشرة بالموضوع (مصر والسودان وإثيوبيا) فإن من الواجب أن نقدم مخاطرة ذهنية، فحواها ضرورة البحث فى إقامة صيغة تكاملية، نواتها اقتصادية و غلافها حضارى، ولتكن فى صورة يمكن أن نطلق عليها «مشروع المثلث الحضارى» بين هذه الأطراف.

ولقد خاضت مصر تجارب وحدوية فى الإطار العربى، كانت ولم تزل، لها الأولوية الأولى، بحكم الانتماء العربى القومى الذى يرسم دائرة الهوية الحضارية والسياسة لمصر فى الأفق التاريخى.

ولكن ها هى الظروف المستجدة، بعد الشروع فى (مشروع القرن) الإثيوبى، تفرض علينا – بصورة «إلزامية» تقريبا فكرة العمل على تأسيس كيان اقتصادى – حضارى جديد تماماً على مسار الدبلوماسية المصرية والسياسة الخارجية المصرية فى تطورها التعاقبى . إنه مثلث المنفعة المتبادلة، بين مصر والسودان وإثيوبيا، على قواعد المصلحة فى التنمية المتوازنة المتبادلة. وهو مثلث يقوم أيضا على قواعد الميراث الجيو – سياسى المستمد من الرابطة النيلية، وعلى قواعد الميراث الحضارى الذى يجمع مصر والسودان على أساس «العروبة ويجمعهما مع إثيوبيا على قواعد الصلة التآلفية المشتركة تاريخياً بين كل من الحضارة الإسلامية الجامعة والمسيحية الشرقية المتجسدة فى أجلى صورها فى مشترك الكنيسة الإرثوذكسية الضامّ للكتلة الكبرى من مسيحيى مصر بالإضافة إلى مسيحيى إثيوبيا الذين يشكلون قرابة نصف شعبها المتنوع، و حيث يمثل المسلمون نحو نصفه (الآخر).

وإنها لدعوة إلى مثقفى الدول الثلاث، ومراكز البحث المتخصصة فيها، ووسائل الإعلام وأجهزة الثقافة المعنية، للبدء فى مناقشة فكرة المثلث الحضارى الجديد: المصرى – السودانى – الإثيوبى.

د.محمد عبد الشفيع عيسى
الأهرام


‫2 تعليقات

  1. الري بالحياط الذي تستخدمه مصر يهدر المياه !! الري الحديث بالتنقيط والرش يوفر المياه وعليه لابد من تحديث اساليب الري لتوفير المياه ,كما يحدث في بعض مناطق السودان, كذلك الزراعه بالبيوت المحميه والتسميد ومكافحه الافات الزراعيه , كذلك بحوث تحسين البذور لرفع مستوي انتجايه الفدان!! واعاده تدوير مياه الصرف الصحي والمياه الجوفيه , واساليب توفير المياه متعدده ومتنوعه .
    يجب ان تبتعد الدوله المصريه واعلامها الكاذب عن اساليب (الفهلوه) عند التعامل مع الشعب السوداني وحكومته عند الرغبه في استغلال الموارد المشتركه لمصلحه الشعبين وما اكثرها ,اول هذه الموارد معادن وموقع حلايب شلاتين والسلفه المائيه المقدره ب300 مليار م.م. والارض المخزن عليها هذه الكميه من المياه او جزء منها 150كيلو شمال حلفا داخل بحيره النوبه .واسوأ اساليب فهلوه الدوله المحروسه واعلام صناعه الكذب المساعده في تطبيق الاجنده الغربيه لايقاف نهضه السودان الزراعيه مقابل حفنه دولارات او اوهام نفوذ اقليمي مفتري عليه لان الاسلوب نفسه تقادم والمحلوسه تتآكل والسودان ينمو وتطبيقه اصبح مستحيلا, ثالثا التعاون مع السودان لزراعه اراضيه الخصبه لغذاء شعوب حوض النيل بدلا عن دفع فاتوره استصلاح الاراض المصريه المكلف والتحايل للاستيلاء علي موارد السودان المائيه والتي يمكن ان تقود الي حروب وعدم استقرار في المنطقه.وشكرا . ودنبق.