تحقيقات وتقارير

“نحنا نصاح.. إلا النواب” بين البرلمانيين من يجأر بالشكوى من سوء المعاش وضنك الحال و”الحاصل البحصل كل صباح”.. بعضهم يناشد ويرسل صوته لقيادة الدولة بأمل زيادة رواتبهم


قد تلازم مئات وربما آلاف المواطنين حالة تمنع وإن شئت الدقة سمها (الاستغناء) و(قطع العشم) في أن بعض ممثليهم داخل البرلمان لا يمكن التعويل عليهم مستقبلاً في التصدي لقضايا وهموم الشعب الاقتصادية والحياتية على إجمالها. ربما لن تتردد دكتورة منى على البرلمان مرة أخرى وهي تحمل مظلمتها لأكثر من عام ونصفه وهي تنتظر البت فيها بلا جدوى.. الدكتورة منى وقفت مرات عديدة كمن يتسول حقوقه وهي تردد بأعلى صوتها وسط رجاءات أفراد الأمن لها بالمغادرة: “دا برلمان يلجأوا ليهو لرد المظالم ونوابه بفتشوا في زيادة مرتباتهم وبيوتهم وعرباتهم وتحسين أوضاعهم وناسيين الحياة الصعبة العايشنها الناس!؟”.

احتمالية عودة الدكتورة منى واردة وأيضاً وارد أن يقذف (عم الطاهر) الستيني بملف قضيته الذي اهترأت أوراقه من كثرة حمله له بين يديه وتردده على البرلمان دون أن يفلح في العثور على من يصغي له.. والاحتمال مكرر أن يتوقف آلاف المواطنين ممن يضج بهم استقبال البرلمان يومياً بحثاً عن من يقضي لهم حوائجهم بين ممثلي دوائرهم.. ربما لن يطرق أحد بعد اليوم بوابة المجلس الوطني ممن تنامى لمسامعهم أو تأكدوا بالأدلة الدامغة أن نواب البرلمان أنفسهم يجأرون بالشكوى من سوء معاشهم وضنك حالهم للمجلس وقيادته وربما إيصال صوتهم لقيادة الدولة بأمل النظر بعين الرأفة لهم بزيادة رواتبهم (وقروشهم) وتحسين السكن لهم لمواجهة الحالة الموصوفة بـ(البطالة) والوضع المادي السيئ كي لا يسهو البعض منهم في الصلاة كما جاء على لسان النائب حسن صباحي أمس الأول (الاثنين)، ومطالبته التدخل ماديا في حياة النواب بأسرع وقت ليتمكن زملاؤه من القيام بواجبهم النيابي بتركيز.. شكوى البرلمانيين عن سوء حالهم الاقتصادي دفعت البعض من الناس للامتعاض من طريقة تعامل النواب مع قضايا الشعب والتركيز على قضاياهم الخاصة فاستحالت الشكوى البرلمانية لسخرية وتندر في مجالس المدينة وأطرافها.

المثير أن شكوى البرلمانيين عن أوضاعهم الاقتصادية وما أثارته من رأى عام ضدهم حين نقلتها أجهزة الإعلام لم تعجبهم، فهاجوا وماجوا مطالبين المستشار القانوني بمقاضاة وسائل الإعلام والصحافيين ووصفوا نقل بعض الصحافيين بـ(المُسيئ) لقيادة المجلس ونوابه، واتهموا أجهزة الإعلام بتحريف وتبديل تصريحاتهم واعتبروا أن هذا النقل ترصد للمجلس ونقل انطباع سيئ عن النواب وإثارة الشائعات عنهم وكأنهم يهتمون بقضاياهم الشخصية.
بين دفتي تصريحات بعض النواب المنكورة تلك تقف الشواهد دامغة على ترجيح بعضهم لقضاياهم الشخصية على غيرها من قضايا عامة الناس، ربما ما يرى فيه البعض خير دليل لتكذيب ما يسوق له آخرين مراراً بأنهم خدام للشعب، ويراه آخرون إثباتا لصدقية ما ذهبوا اليه بأن دورهم الحقيقي كبرلمان للحزب الحاكم يخدم قضاياه بالدرجة الأولى، وينشغل نوابه بحسب اتهامات البعض للنواب- بالنظر لساعات عملهم ومخصصاتهم التي يتقاضونها- لخدمة قضاياهم الشخصية أكثر منها إلى خدمة قضايا الناس.

جلسة البرلمان أمس الأول حملت ما يكفي من إثبات ما ذهب إليه كثيرون، ففي ذات الجلسة التي حرض فيها النائب عمر الخليفة ود بدر عن حزب المؤتمر الوطني وغيره نواب آخرون على اتخاذ إجراءات قانونية في مواجهة من ينتقض من البرلمان ويظهر نوابه كمن يهتمون بقضاياهم الشخصية، خرج في ذات الجلسة من يثبت للشعب حقيقة ممثليهم تحت قبة البرلمان، إذ طالب النائب حسن صباحي ونواب آخرون بزيادة مرتباتهم وتحسين السكن.
في ذات الجلسة أثار النواب ما يثبت لهثهم وراء حقوقهم ومخصصاتهم، فقد حمل تقرير رسمي عن أداء المجلس الوطني ولجانه خلال الربع الأول من العام ما يثبت صدقية كل ذلك بلا لبس، التقرير كشف عن سعي المجلس لتمليك أعضاء البرلمان فارهات السيارات من شركة جياد يدفع النائب قيمتها بالأقساط حتى لا تثقل كاهله، وأن يكون السداد بفترة زمنية حتى نهاية أجل البرلمان.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد لإثبات وقوف الدولة على راحة النواب، بل تعداه إلى استبدال السكن الحالي لعضوات المجلس بمقر أكثر ملاءمة من حيث الموقع والمستوى التأميني ونوع الخدمة اللائقة المقدمة لهن. ليست هي أول مرة يثبت فيها بعض النواب لمن انتخبوهم سعيهم وراء مصالحهم الشخصية أكثر من ممارسة الدور الرقابي للجهاز التنفيذي، فمع كل مرة توصد فيها الحكومة الباب أمام اثارة النواب لأي قضية من القضايا ذات الصلة بالمواطن، يلجأ بعض النواب للاقتصاص لأنفسهم ومحاولات تحجيمهم، وليس ببعيد قضية زيادة أسعار الغاز وانتصار الوزير وحكومته لقرار الزيادة واستقرار أسطوانة الغاز عند 80 جنيها للمستهلك، وكمن يبحث عن إبراء ذمته حتى لا يتحول إلى (بلية)، عاد بعض النواب من جديد لفتح ذات الملف حيث طالبوا رئاسة البرلمان بإحاطتهم بملابسات زيادة سعر الغاز لأنهم بحسب إفادات النائب الهادي حامد بيتو في جلسة للبرلمان قال إنهم ما زالوا ملاحقيين من قبل المواطنين في ذمتهم ومسؤوليتهم لما للزيادة من تجاوز صريح لقانون الموازنة الذي أجازه البرلمان، الرجل وكمن يذكر رفاقه في تعامله مع قضايا الشعب قال لهم وبالحرف (بقيتوا بلية).

في ذات الجلسة أعلى النواب سقف طموحاتهم في تحسين أوضاعهم وإظهارهم في أحسن صورة، وكمن يرى العبرة في إنجاز مهام الشعب، ارتباطها بمكان معين دون النظر إلى حاجته للتغير أو لا، دفعت سامية حسن سيد أحمد عضو البرلمان عن الحزب الحاكم رئيس هيئة البرلمانيات بمقترح لإنشاء (مجلس وطني جديد) أو مكان يستوعب النواب وكوادر البرلمان وحدثت عن أن هنالك خرطا ودراسات سابقة لإنشاء المجلس الوطني، ولكن وقائع الحال تؤكد أن البرلمان الحالي المتمدد على مساحات مترامية على ضفة النيل بأم درمان تم تشييده على طراز فخيم جعله الأميز بين نظرائه من برلمانات المنطقة العربية والأفريقية، ويحوي قبة ضخمة ذات تصميم معماري نادر، مخصصة لانعقاد الجلسات، بجانب قاعات ملحقة لاجتماعات اللجان، ومكاتب كثيرة منها ما هو مخصص لنحو 15 لجنة بخلاف الإدارات الأخرى، إضافة إلى مكاتبه أخرى غير مستغلة.

ساحة البرلمان تعج يومياً بالمفارقات والقضايا المبذولة في مختلف أنحاء البلاد، ما يقترب منه البرلمان والوقوف عنده قد ينعدم أو يكاد لا يذكر مع كثير من المسكوت عنه، في مناقشة قضايا الفساد، ومحاسبة أو متابعة المتورطين في التعدي على المال العام ومرتكبي المخالفات ممن يضج بهم تقرير المراجع العام سنوياً، عشرات القضايا تأتي عبر بوابة البرلمان تتعلق بالسياسات الاقتصادية في البلاد والأمن والعلاقات الخارجية والفقر والصحة والتعليم وتراجع الخدمة المدنية، والمخالفات هنا وهناك، قضايا لا يتجاوز بعضها منصة البيانات أو تقارير الأداء التي يدلي بها وزراء الجهاز التنفيذي على مسامع النواب.. وليس ببعيد مرات عديدة رفع فيها بعض النواب أصواتهم احتجاجاً على عدم إقناع تلك البيانات لهم ولكن بعضهم يجد نفسه محمولاً على القبول بها والموافقة عليها في تصويت تسمع فيه كلمة (نعم) أكثر من (لا) إلا قليلاً.. ويختتم بعض تلك التقارير بتصفيق ومدح وثناء على الوزير يجب ما يسبقه من اتهامات وانتقادات مخففة لذلك الوزير أو تلك الوزارة، تمضي في نهايتها إلى صفحات الصحف ثم تطوى في طي النسيان، لتأتي قضية أخرى وتواجه ذات المصير.

الخرطوم – سلمى معروف
صحيفة اليوم التالي


تعليق واحد