جعفر عباس

وأدمنت الشاي الكرك في الخليج (1) و(2)


وأدمنت الشاي الكرك في الخليج (1)

توقفت عن شرب الشاي وعمري نحو 11 سنة، وبالتحديد بعد أن دخلت المدرسة المتوسطة، حيث استدعت الضرورة أن أقيم في السكن الداخلي بالمدرسة، «سكن وأكل وشرب» على حساب الحكومة (ومع هذا فإنني أعترف بأنني عارضت الحكومات السودانية المتعاقبة، فلم يقيض الله بعد لوطني حكومة تملأ عيني، ولم يكن ذلك باللسان فقط.. فهل أنا ناكر للجميل؟ إطلاقا).
المهم عندما تكون مقيمًا في السكن الداخلي فمعنى ذلك أن تتناول الشاي قبل شروق الشمس بقليل، ومثل كثيرين من زملائي كنت أرى أن المسألة لا تستأهل وأنه من الخير لي أن أمد ساعات نومي، وهكذا كنا نصلي الصبح ثم ننام حتى قبل رنين الجرس بربع ساعة فنغسل وجوهنا جزئيًا ثم نتوجه إلى حجرات الدراسة، وكان السواك على أيامنا تلك فرض كفاية فإذا استاك/ تسوك البعض سقط السواك عن الباقين، حتى بعد أن دخلت الحياة العملية لم يكن للشاي مكان في برنامجي اليومي، وكان من الوارد أن أشرب كوب شاي واحدًا في اليوم أو في الأسبوع أما القهوة فلا أظن أن مجموع ما شربته من أكوابها طوال حياتي يزيد على الخمسة. ولو رشفت جرعة من القهوة في السابعة صباحًا فإنني أظل صاحيًا حتى السابعة من صباح اليوم التالي (كان هناك من يتعجبون من رفضي شرب القهوة وخاصة أيام الامتحانات على عهد الدراسة، طالما أنها تمنعني من النوم، وبالتالي تعينني على السهر، ولكن كانت لي فلسفة معاكسة للفهم العام للاستعداد للامتحانات، فما أن تبدأ الامتحانات حتى كنت أقدم موعد نومي حتى عن الساعة المعتادة، بمعنى أنني كنت أحرص على النوم المبكر في مواسم الامتحانات، وبحمد الله كان مردود ذلك طيبًا على الدوام، لأنني ببساطة كنت أستعد للامتحانات قبل موعد بدئها بكثير، وبالتالي كنت بحلول الموعد أكون جاهزا للجلوس لها)، وكنت إذا شربت شايًا وضعت في الكوب العادي نحو ست ملاعق سكر (وهو المعدل السوداني المعتاد وأينما ذهبت هنا في الخليج يسألني العامل الآسيوي المكلف بإعداد الشاي: بابا سكر عادي وللا سوداني؟). ومن باب ترشيد الإنفاق لم تكن أمي تتحمس كثيرًا لدعوتي إلى شرب الشاي!
ثم جئت إلى منطقة الخليج حيث شرب الشاي في مواقع العمل إجباري، ما أن تدخل مكتبك حتى يوافيك «رفيق» بكوب شاي على رأس كل ساعة، حتى لتحسب أنه يتقاضى عمولة على استهلاكك للشاي، ويستدعيك المدير للتوبيخ ثم معاقبتك بخصم من الراتب ولكنه يصر على أن تشرب الشاي عنده أولاً، وبحكم طول الإقامة في الخليج أدمنت الشاي وخاصة بعد أن نجح أكثر من «رفيق» في إقناعي بمزايا الشاي الكرك، وهو أن تغلي ربع كيلو من الشاي لصنع كوب واحد وتضيف إليه اللبن بكمية محسوبة تجعل لون المشروب «بنيا غامقا»،
واستفحل إدماني الشاي بدرجة أنني صرت لا «أتكيف» إلا من الشاي الذي أصنعه بيدي، أعد بنفسي كوب الشاي في البيت صباحًا وعصرًا، بل صرت ملطشة: صار من المعتاد أن تطلب مني أم الجعافر – وبكل بجاحة ووقاحة – أن أزودها بكوب شاي.. نسوان آخر زمن، وعندي في المكتب عدة كاملة لإعداد الشاي.. لا أحتاج إلى خدمات «رفيق» في مجال الشاي وهكذا أبعدت عن نفسي شبهة التعامل مع البعثيين والشيوعيين وكل الرفاق!! ثم اكتشفت المزايا الصحية المهولة الناتجة عن شرب الشاي.. فشكرًا للخليج، وقد أحدثكم عنها غدا وقد لا… والأمور بيد الله ومن بعده يتوقف الأمر على مزاجي بعد كوب الشاي الصباحي.
.
وأدمنت الشاي الكركي في الخليج (2)

صرت محترفًا في شرب وصنع الشاي بعد قدومي إلى منطقة الخليج، بعد أن كانت حصتي من الشاي لا تتجاوز الكوب الواحد في الأسبوع أحيانًا، وبلغ بي إدمان الشاي إلى أنني صرت أحرص على تناول الشاي الكرك أي الشديد التركيز، ويكون عادة باللبن الطازج.
نقطة نظام: للمرة الألف فالعرب تقول للسائل الذي ينزل من ضروع البهائم «لبن» وليس حليبا، ولا أذكر أنني طالعت في القرآن الكريم كلمة حليب بذلك المعنى، والأمر الثاني هو أنه لا اللبن ولا التفاح ولا البرتقال ولا العنب الذي نشتريه من محلات متخصصة طازج، بل بعضه استغرق أكثر من شهر ليصل إلى المتاجر، وعندما نقول اللبن طازج فإننا نعني أنه «سائل» ولا نعلم متى تم حلبه من ضرع بهيمة ما، وفي أجزاء من المنطقة العربية يصر البعض على أن اللبن هو ذلك «الحليب» بعد أن يصل إلى درجة معينة من التخمر أي بعد أن يفقد صفة طازج ويصبح رائبًا، ولكن وبما أن المسألة هاصت وجاطت فقد صار الروب عندهم هو الزبادي في حين أن اللبن الرائب هو ما يسمونه لبنًا.
وعدتكم أمس بالتعرض أو عرض الفوائد الصحية العائدة من شرب الشاي وأقول إن دراسات علمية موثقة ومحققة أثبتت على نحو قاطع أن شرب الشاي بكميات تجارية (نحو 4 أكواب كبيرة يوميًا) يساعد على تخفيف التوتر، لأنّ الشاي يخفض معدلات الكورتيسول، وهو الهرمون المسبب للشد العصبي والتوتر، (ولمن يريد التحقق من هذه المعلومة أن يدخل موقع المجلة العلمية سايكوفارماكولوجي – علم الصيدلة النفساني) وكما يقول البروفيسور أندرو ستبتو من كلية لندن الجامعية، فإنّ الشاي يحتوي على عنصر غذائي شديد الفعالية يسمى «ثيانين» يقوم بدور فعال في تثبيط عمل مرسلات الهيجان العصبية، فتقل حدة التوتر عند شارب الشاي.
وأذكر أنني كنت في زيارة لتشيكوسلوفاكيا (تفتت بحمد الله إلى دولتين ولم نعد مطالبين بكتابة اسمها الطويل السخيف هذا)، وأينما شربت شايًا هناك وجدت طعمه أقرب إلى طعم نشارة الخشب المغلية بزيت الخروع، وظللت عدة أيام أحس بأن روحي (ستطلع) إذا لم أشرب شايًا حقيقيًا، ثم ألقت الصدف في طريقنا عائلة سودانية تقيم هناك ودعونا إلى تناول وجبة لديهم، فقلت بلا أدنى حياء: الله يخليكم خلوها كوب شاي.. وشربت شايًا عندهم وأحسست بالعرق يتصبب من جميع مسام جسمي، وشعرت براحة كتلك التي يحس بها المصاب بحمى فيتعرّق ويحس بالعافية (واكتملت سعادتي بطبق فول بزيت السمسم وبعده أيضًا كوب شاي).
الدراسة التي أعدتها الجامعة اللندنية، تؤكد مجددًا دور الشاي كمضاد للأكسدة، فكلما تقدم الإنسان في العمر، أنتج جسمه ما يعرف بالجزيئات الحرة (فري راديكالز) وهي حرة بمعنى أنها تفتك بخلايا جسمك على كيفها، فتلك المضادات (الفلافنويدات) المتوافرة في الشاي (وبكميات أقل في البصل والتفاح) تؤدي إلى ارتخاء جدران الأوعية الدموية وتؤثر في تكوينها بحيث تصبح أكثر قدرة على منع التصاق الكوليسترول والبلاك (مواد جيرية) ببطانة الأوعية، ما يقلل الإصابات بأمراض القلب كنتيجة لانسدادات الأوعية.. وهناك مواد غذائية في الشاي لا يمتصها الجهاز الهضمي بالكامل فيصل بعضها إلى القولون ليقلل من الباكتيريا الضارة ويشكل غذاء للباكتيريا الحميدة.
وهكذا عزيزي القارئ كلما رأيت شخصًا في فيلم يرفع كأسًا ويقول لمن معه: في صحتك! أرفع كوب شاي إلى فمك وقل بكل ثقة: في صحتي و(ألف هنا وشفا). وشكرا للخليج الذي أرغمني فيه «الرفاق» في المكاتب على شرب الشاي ست مرات خلال الدوام الواحد ثم دلوني على الشاي الكرك الذي صار وجبة لي عصر كل يوم.