منصور الصويم

حنينه إليها


تحت الفراش، في ليالي البرد القارس، ينكمش على جسده النحيل، ويبدأ رحلة المناداة اليومية، ذكريات تلك الأيام البعيدة، وصور الأيام المقبلة المستنسخة من صور الماضي المتكسر. يراها كما كانت قبل السنوات العشرين التي انقضت منذ آخر لقاء بينهما؛ تهرول منطلقة بعد أن تضرب الباب أمامها بقوة، تمر من أمامهم، ربما تقصد أن تبعثر جلستهم وحركتهم في الشارع، تعبر سريعا، عامدة أن تطأ بقدمها ميز المصارعة، أو خطوط لعبة شد واركب، أو حفر لعبة أم الحفر، كل شيء يرتبك، البعض يظل واقفا مثل الأبله وإحدى قدميه معقولة ومعلقة بيده، والبعض الآخر يتجمد كأنه صورة وبين أصابع يده كرة الشارب أو حبات البلي في حين يدخل آخرون – من ضمنهم هو – في ما يشبه حالة الذهول التي تقترب من الجنون اللحظي.
منكمشا تحت الفراش، يقذف بصور الماضي إلى الأمام عشرين عاما، إلى الآن، في ذات هيئتها القديمة، هيئة بنت الثانوي التي تحضر في أيام الامتحانات إلى بيتهم لتذاكر مع أخته وتطلبان منه أن يراجع لهما مواد الفيزياء والكيمياء، يستعيد ذلك الإحساس المرعش ويزرعه في هذه اللحظة، تخرج الأخت لتعد شايا باللبن، تحضر بسكويتا، لتفعل شيئا ما في المطبخ، وتتحول هي لتكون قريبة منه، تلتصق به، أنفاسها لطيفة تتنزل على عرق وجهه وتشعره ببرودة أطرافه، تقترب أكثر قبل أن تعود الأخت محملة بالشاي والبسكويت وضحكات التواطؤ المفضوح.
يتقلب تحت الفراش، لا عرق الآن، لا خوف وتردد، هي معه بعد كل هذه السنوات، هو من يقترب منها، ويلتصق بها ويناديها من جوف الماضي البعيد، يتأملها، لم تتغير كثيرا، كما كانت في جلسات المذاكرة ومثلما كانت ترقص في حفلات الأعراس مع من يجرؤ من شباب الحي بينما هو متوار خلف صفوف الحاضرين والمتفرجين، لكنها الآن له وحده، تبتسم له وتستمع إلى كل ذلك الكلام المخزون منذ ملايين السنين، يحملها بين يديه، ينادي أنفاسها، يتركها تداعب وجهه من جديد، تنقل منه إليها فوران أحاسيسه وعميق تولهه ومحبته، متقلبا هي بين يديه الآن.
في ليالي الصيف شديدة الحرارة، يطفئ الأنوار ويتخفف من ملابسه قبل أن يتمدد على فراشه، يستعيدها مجلوة في كبسولة الزمن، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ثم يبدأ رحلة الشتاء والصيف، اليومية.