حسين خوجلي

دعوة للاستلاف الموثق والمشهود..!!


٭ الأصوات الشجية الندية في بلادنا شحيحة في الغناء والنشيد والتواشيح والمدائح، والأقلام الرشيقة في الإفصاح والرسم بالكلمات تعد على أصابع اليد الواحدة، وكذلك الأنامل الموقعة والعازفة على الآلة والورق، وأصحاب الشعر مثل دهب شيبون موجود في الأمثال وحلم الباشا، لكنه ضنين على وجه الأرض وعلى باطنها. ولذلك عزيزي القارئ إذا رأيت مبدعاً قد استيأس أو زهد أو كبّله الأسف، فافعل كل ما تستطيع لإعادته من جديد لموهبة الإفصاح والبيان والتبيين، فالحياة من غير هؤلاء عمياء وخرساء، واجعل مقدمتك في التحفيز والدعم والاستثارة والاستشارة أبيات المهجري:
نسي الكنار نشيده
فتعال كي ننسى الكنار
وليقذفن به الملال
من القصور إلى القفار
ولترمين بريشه
للأرض عاصفة النفار
ولنستعض عنه بطير
من لجين أو نضار
لا .. لا .. فإن سكت الكنار
فلم يزل ذاك الكنار
أو كان فارقه الصُداح
فلم يفارقه الوقار
صمت الكنار وإن قسا
خير من النغم المعار
صبراً فسوف يعود للتغريد
إن عاد النهار
٭ من أقوى الانتقادات عند أهل الصحافة للمسؤولين الذين يقضون أزمنة متطاولة في الوظيفة العامة دون أن يضيفوا شيئاً قولهم.. نعم لقد أمضى عشرين عاماً ولكنها للأسف سنة واحدة تكررت عشرين مرة.
سنوات تسوء فيها الأعمال والأحوال والمآل، ولأننا شعب جبل على المجاملة فإننا نبدأ بإجابات الساخر برناردشو، ولكننا لا نختمها بسخريته الأخيرة اللاذعة، فقد حكى الشاهد أن عجوزاً متصابية قابلت الكاتب الايرلندي الساخر برناردشو في إحدى الحفلات.. وبعد أسئلة الطقس المعهودة عند الانجليز في ابتدار الحديث، تعمقت المتصابية شيئاً فشيئاً في الأسئلة، إلى أن قالت: بكم تقدّر عمري يا شو؟ وفاجأ السؤال برنارد ولكنه تمالك نفسه واستعاد وعيه اللاذع، فأجابها: من نظر إلى قوامك ظنّك ابنة ثماني عشرة.. ومن نظر إلى عينيك ظنك ابنة عشرين.. ومن نظر إلى شعرك ظنك ابنة خمس وعشرين، فأعادت سؤالها: ولكن كم تظن أنت عمري؟ أجاب شو: إنه مجموع هذا كله.
والاختيارات العربية عزيزي القارئ في الشأن العام والوظيفة العامة، دائماً ما تختار تكرار السنة الأولى وتكرار جملة أمراض الشيخوخة، ليكون لزاماً على الجماهير دفع فاتورة الغياب العملي والذهني وفاتورة التداوي الباهظة.
٭ أسأل منذ زمان عن كتاب كامل عن الفقيه العالم إياس بن معاوية، فقد وجدت أن الشذرات المتناثرة عن هذا الرجل الذكي لا تكفي، ومازالت التحقيقات والبحث والأبحاث جارية. وهذه دعوة للاستلاف الموثق والمشهود من مكتبة التيجاني سعيد وعمر عبد القادر أو محمد عبد الله الغبشاوي ومن حكايات التيجاني عن الرجل. ولو احتفظ التيجاني سعيد حسنين بكل الأقوال والأشعار والحكم والطرف والشوارد وعلق عليها، لأخرج واحداً من أميز كتب المختارات في زمان التأليف والاختيار المحكم، ومما أحفظه له:
أن أحد الخلفاء طلب من رجاله أن يحضروا له الفقيه إياس بن معاوية، فلما حضر الفقيه قال له الخليفة : إني أريد منك أن تتولى منصب القضاء..
فرفض الفقيه هذا المنصب وقال إني لا أصلح للقضاء.. وكان جوابه مفاجأة للخليفة فقال غاضباً: أنت غير صادق..!!
فردّ الفقيه على الفور: إذن فقد حكمت على بأنّي لا أصلح.. فسأله الخليفة: كيف ذلك؟ فأجاب الفقيه: لأني لو كنت كاذباً كما تقول.. فأنا لا أصلح للقضاء.. وإن كنت صادقاً فقد أخبرتك أني لا أصلح للقضاء.
٭ أقام لي مجموعة من الأصدقاء حفلاً صغيراً على وجبة غداء كان جوهرها حلة «القطر قام» وفاكهة وأنس سوداني في غاية السلاسة والتوادد، وكان الجميع من كل أهل السودان وأصقاعه من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وقد تباروا في الحكايا والطرائف عن السودان والسودانيين.. ومن أطرف ما سمعت أن أحدهم قال إن أحد بلدياتهم.. جاء الى العاصمة وصنع له لبسة أفرنجية أنيقة أثرت على شكله ومضمونه، فمشى في شوارع العاصمة متبختراً، ودلف الى سيوبر ماركت ضخم جمع ما جمع من الخيرات، فلما انتبه له البائعون بالمحل سألهم بلغة ريفية متعالية: بالله يا شباب في معلبات؟ فأجابوا بنعم.. فردّ بذات التعالي: طيب بالله يا جماعة أدّونا علبة ورنيش!!
٭ حاور سكير عالماً فقال:
هل من مشكلة إذا تناولت التمر؟
فرد العالم: لا.
فسأله السكّير وإذا أكلت معه العشب؟
فقال العالم: وما المشكلة في ذلك؟
فسأله السكّير مرة أخرى: وإن شربت عليهما الماء؟
فردّ العالم ضاحكاً: بالهناء والشفاء..
فرد السكير بكل ثقة: ما دام هذا كله جائزاً، فلماذا تحرّمون علينا الخمر وهي مصنوعة من التمرد والماء والعشب؟
عندئذٍ ابتسم العالم وسأله: لو سكبت عليك الماء هل سيقتلك؟
فردّ السكير: لن يضرني بشيء.
فقال العالم: ولو نثرت عليك تراباً هل سيقتلك؟ فردّ السكير باستغراب: لا يقتل التراب أحداً.
فقال العالم: إذا أخذت التراب والماء وخلطتهما وجعلت من ذلك لبنة «طوبة» عظيمة فقذفتك بها هل ستضرك؟
فاندهش السكير قائلاً: ستقتلني بكل تأكيد.
فردّ العالم مبتسماً: كذلك الخمر..
قال الشاهد: إن الحكاية أحدثت أثراً إيجابياً في صحن مسجدهم العتيق بالقرية النائية، إلى أن رفع أحد العوام يده معترضاً، فسمح له بالتعليق قائلاً: لكن يا مولانا التمر والموية مع أعشاب الروح دي ما خمرة دا عرقي راسو عديل. وضجّ الحضور بالضحك والتعليقات، وانفضّ السامر بهذا التعليق الفاجع، وأصبح لزاماً على مولانا أن يبحث عن حكاية جديدة ليدمغ بها مقطوع الطارئ العرقي ابن عم العراقي في تاريخ جلسات سبعة بيوت.
٭ فلتبنِ الحضارات الأخرى ما تبنى من الحجارة والأسمنت والفولاذ والتسلّح ما تبني من العمائر وناطحات السحاب.. وقد فعلت فما أضافت للتراب شيئاً غير التراب.. ولتبنِ الحضارة السودانية حقولاً من الأشجار والخضرة والينابيع تشيد على ماء النيل والنهيرات الصديقة.. ولتصطاد مياه الأمطار لتسمق الغابات والمروج والثمار، ونكون قد أضفنا للتراب شيئاً غير التراب أضفنا للتراب الحياة.
نحن موعودون بالحضارة الخضراء، وهي التي تجعلنا نتجاوز الآخرين .. ولكننا لا نفعل لأن برامجنا وقادتها من أصحاب القلوب الغبشاء.. ولذلك لا يرون هذه الحضارة الموعودة والمعطلة، والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا.
٭ ما أزال أتدبّر هذه العبارة فتهزّني، وأهديها للآخرين:
قدّم المسلمون لأوروبا الإسلام والعربية، فردوّا الإسلام والعربية.
وقدموا لآسيا الإسلام والعربية، فقبلوا بالإسلام وردّوا العربية.
وقدموا لأفريقيا الإسلام والعربية فقبلت الإسلام وقبلت العربية.