تحقيقات وتقارير

أمهر العاملين يتقاضى 230 جنيهاً فقط العمالة المؤقتة بمصنع الجنيد.. منتوج وافر وحقوق مهضومة


المدير العام: ملزمون بالهيكل والرواتب ضعيفة وتمكنا من تثبيت ستين عاملاً
عمال: أجرنا الشهري يعادل ثمن وجبة واحدة بمطاعم شارع المطار
التسكين في الخدمة المستديمة هاجس يؤرق الكثيرين

من أكثر الأيام التي يتمنى “محمد” العامل المؤقت بمصنع سكر الجنيد، ألا تأتي هو ذلك اليوم الذي يتوجه فيه ناحية نافذة مكتب يجلس خلفها محاسب مهمته تسليم العاملين أجورهم الشهرية. يقول محمد والأسى يكسو وجهه، والحزن يوشك أن يطفر من مقلتيه، أن صرف الراتب يعني مضاعفة همومه. محمد قال ذلك وتركني لحيرة عظيمة، فليس من المنطق أن يرفض موظف أو عامل الوقوف أمام الصراف، فتلك لحظة مشتهاة للكثيرين، لكن محمد سرعان من عاد وأزال سحابة الاستغراب التي اكتسى بها وجهي، وفسّر عدم رغبته في الوقوف أمام الصراف بقوله، إن الأجر الذي يتسلمه من الصراف لا يتجاوز السبعمائة جنيه في أفضل الحالات، وهو مبلغ لا يغطي ديونه لدى عدد من التجار. ومضى “محمد” قائلاً إن هذا يضعه دائماً أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يسدد ما عليه من ديون أو يتوقف عن الشراء الآجل، وقال: “العمل في الجنيد معطون بماء الإذلال، وفيه إمعان في هدر إنسانية العمال.. والمصيبة الكبرى أنه لا يوجد بديل ولا يوجد من يسمع شكوانا”، ويعتقد وبجانبه أكثر من ألفي عامل مؤقت بشيخ مصانع السكر بالسودان أن أجورهم لا تتسق مع جهودهم التي يبذلونها حيث يصفونها بالمتواضعة، كما يشكون من ضعف حركة تسكينهم في الخدمة المستديمة.

مفارقات الأجور
يتم تصنيف العمالة المؤقتة بمصنع سكر الجنيد إلى ثلاث فئات، وهي عامل، وعامل ماهر، وعامل أول، ويبلغ الأجر الأساسي لمن يصنف في درجة العامل مبلغ 190 جنيهاً “نعم 190 جنيهاً فقط”، وكل خمس سنوات يتم منحه علاوة الى أن يصل الراتب الأساسي إلى 240 جنيهاً، أما العامل الماهر فيبدأ راتبه من 230 جنيهاً، فيما يتراوح المرتب الأساسي للعامل الماهر بين 270 و340 جنيهاً، وفيما يتعلق بالمخصصات أو ما يسمى بالبدلات، فهي تتمثل في مبلغ غلاء المعيشة، ويتفاوت بين الفئات الثلاث بين التسعين والمائة وعشرين جنيهاً، وأيضاً يتم منحهم بدل ترحيل ويبلغ 75 جنيهاً، ويتم منحهم أيضاً مائة جنيه أخرى، وأكثر ما يثير التعجب أن منحة الرئيس التي تبلغ 200 جنيه تُعطى للعمال المؤقتين خمسين جنيهًا فقط. يقول أحد العمال بعدما اشترط حجب هويته “لا ندري هل تم تخفيض المنحة الرئاسية من قبل وزارة المالية أم من جانب شركة السكر”.

ويقدر مرتب العامل بخمسمائة جنيه في الشهر، وفي حالة الأجر الإضافي يرتفع الى ستمائة جنيه، ويصرف العامل الماهر 920 جنيهاً في الشهر شاملاً الأجر الإضافي، أما حافز الإنتاج الشهري فهو يتوقف على الإنتاجية غير أنه لا يتجاوز في أفضل حالاته ما يعادل الخمسة دولارات، وفيما مضى كان العمال المؤقتون يتقاضون حافزاً نهاية الموسم بما يعادل السبعة أشهر، إلا أنه توقف قبل ثلاثة أعوام، وأجور العمالة المؤقتة بمصنع سكر الجنيد لا تختلف كثيراً عن العاملين في الخدمة المستديمة الذين أيضًا يعانون أشد المعاناة من تواضع أجورهم غير أن تمتعهم ببعض الامتيازات عن المؤقتين هو الفارق الوحيد، وفي هذا الصدد فإن المقارنة تبدو معدومة بين أجور العاملين بشركتي كنانة والنيل الأبيض ومصنع الجنيد.

معاناة وشكوى
وهنا يقول عامل موسمي “فضل حجب اسمه” إنهم مجبرون على العمل بأجور شهرية متواضعة، وذلك لضيق فرص العمل في المنطقة والبلاد عامة وقال: راتبي الشهري يبلغ 800 جنيه، وهو يعادل ثمن وجبة يمكن أن يتناولها أحد أثرياء عهد الإنقاذ بكافتريا بشارع المطار بالخرطوم، أو تعادل نثرية يوم واحد لمسؤول من شركة السكر يغادر في مهمة خارجية، معتبراً أنهم يتعرضون لظلم كبير وواضح ولا يجدون من يقف بجوارهم، وذلك لأن النقابة تدافع عن حقوق العاملين المنضوين تحت لوائها وهم العاملون في الخدمة المستديمة، فيما يشكو عامل آخر من الظروف الصعبة التي يعملون بها، ويضيف: صناعة السكر معروف أنها قاسية، ونحن نعمل في ظل ظروف مناخية متقلبة ما بين درجات البرودة المنخفضة والمرتفعة، وذلك من خلال ثلاث ورديات، وهذا يعني أننا نبذل جهوداً كبيرة بجانب الإخوة في الخدمة المستديمة، ولكن للأسف فإننا جميعًا “مؤقتين وثابتين “نتقاضي أجوراً زهيدة لا تكفي لمواجهة منصرفات أسبوع واحد، ولا نعرف متى ينصلح الحال، لكن أستطيع القول أن العمال المؤقتين بمصنع سكر الجنيد يستحقون الزكاة وذلك لأنهم يرزحون بامتياز تحت خط الفقر بكل المعايير.

الحد الأدنى للأجور ومفارقات السكر
تعريف الحد الأدنى للأجور هو أدنى مبلغ من المال يتقاضاه العامل في الساعة، اليوم أو الشهر بحكم القانون، وهو أيضاً أدنى مبلغ يجوز فيه للعامل أن يبيع جهده، وقد يتحدد هذا المبلغ لتغطية أجور كل العمال أو مجموعة منهم يعملون في صناعات معينة، وقوانين الحد الأدنى للأجور كثيراً لا تغطي أجور الأشخاص الذين يعملون في حرف أو صناعة، وبالنظر الى أجور العمالة المؤقتة بمصنع سكر الجنيد وهي التي تشمل اليوميات والموسميين فإنها لا تتجاوز في أفضل حالاتها ما يعادل الخمسة وسبعين دولارا بمعدل دولارين ونصف في اليوم، وهو أجر يعتبر متواضعاً مقارنة مع الارتفاع المتواصل للأسعار ولا يتماشى مع الظروف الاقتصادية المتردية التي تعاني منها البلاد، كما أن الكثير من العاملين الذين التقيناهم بالجنيد سواء كانوا في الخدمة المستديمة أو المؤقتة فإنهم يتفقون حول تواضع أجورهم مقارنة أيضاً مع العمل الشاق الذي يؤدونه بالإضافة إلى رفدهم الاقتصاد الوطني بمليارات الجنيهات سنويًا

والجدير بالذكر أن قراراً رئاسياً صدر من قبل قضى بزيادة الحد الأدنى للأجور إلى 425 جنيهاً، ورغم أن القرار معمم على كل العاملين في الخدمة المدنية إلا أنه تجاوز في التطبيق العمال المؤقتين وهذا ما توضحه الأجور الأساسية للعمالة المؤقتة بمصنع سكر الجنيد.

الهيكل الراتبي وضرورة التعديل
سألت مدير مصنع سكر الجنيد المهندس علي محمد يوسف الشكري، عن أسباب تواضع أجور العاملين في الخدمة المستديمة، فأشار الى أنها تأتي متماشية مع هيكل الأجور بالدولة، ويكشف عن وجود عمال مؤقتين تفوق أجورهم نظراءهم في الخدمة المستديمة بالمصنع، ويرجع هذا الأمر الى البدلات خاصة تلك المتمثلة في الأجر الإضافي، وقال إن المصنع يطبق هيكل الدولة فيما يتعلق بالأجور، غير أن الشكري يعترف بحقيقة ضعف العائد المادي الذي يحصل عليه العاملون في مصنع الجنيد في الخدمة المستديمة والمؤقتين، لافتًا الى تكوين لجنة لمراجعة الأجور، وقال: نصرف كما أشرت حسب الهيكل الراتبي والجدول الذي يحكم العاملين في الخدمة المستديمة بالدولة ويتساوي العاملون في مصانع السكر مع نظرائهم في المؤسسات الأخرى مثل التعليم والصحة وغيرهما، ولأن العاملين في قطاع السكر يبذلون جهودًا جبارة وكبيرة، فقد عرضت الإدارة على نائب رئيس الجمهورية هذا الأمر، وطالبت بزيادة أجور العاملين بشركة السكر السودانية، معترفاً بأن الفرق شاسع بين أجور المصانع الحكومية والنيل الأبيض، وأوضح أن اللجنة التي تم تكوينها لهذا الغرض ستنظر في الأمر ومن ثم ترفع توصياتها للنائب الأول، ويعود للحديث عن المؤقتين ويقول إن إدارة المصنع ليست لها صلاحية في تعديل هيكل أجور الدولة.

البحث عن التسكين
ولا تتوقف قضايا العمالة المؤقتة بمصنع سكر الجنيد على الأجور المتدنية بل تتجاوز هذا الأمر وتنتقل إلى شكوى ظل يجأر بها الكثير منهم تتمثل في أنهم ظلوا يعملون منذ سنوات طوال بالمصنع ورغم ذلك تم استيعابهم بالخدمة المستديمة، وكل من يتحدث يؤكد أحقيته بالتثبيت استناداً على خبراته ومؤهلاته ـ كما أشار إلينا البعض ـ وعلى صعيد الذين تجاوزهم التثبيت في الخدمة المستديمة فإن القائمة تطول وتشمل الكثير من الأسماء لعاملين مؤقتين ظلوا يعملون لعشرات السنين دون أن يشملهم التسكين رغم كفاءتهم بل إن بعضهم يتولون إدارة أقسام كاملة. ويزعم عدد كبير من العاملين المؤقتين أن المعايير التي تستند عليها اللجان في تحديد الذين يستحقون التثبيت غير عادلة، ويشككون في وجود شبهات محسوبية، وفي مصنع الجنيد يوجد العديد من العمال الذين أثبتوا كفاءة ويتمتعون بالخبرة، ولكن لم يتم تسكينهم حتى الآن، وعلى سبيل المثال لا الحصر ففي قسم الإنتاج “المصنع” يوجد فني الخراطة معتصم الطيب في قسم الورشة، بالإضافة إلى سالم الغالي نمر، محمد عبد الله دواجن، أسامة الرشيد الذي يداعبه زملاؤه بأنه بات على أعتاب المعاش ولم يتم تثبيته حتى الآن رغم أنه واحد من أفضل الكفاءات الإدارية بالمصنع، وكذلك الفني محمد أغبش بورشة المصنع، فيما اختار عفيف البصير الذهاب بعيداً عن المصنع بعد أن أصابه اليأس من عدم تثبيته، وهو عمل في قسم التعبئة لأكثر من عشرين عاماً، وكان يؤدي مهام مهندسين، ويشرف أحياناً على القسم، وكذلك تجاوز التثبيت العامل الماهر فتح الرحمن محمد أحمد ويعمل بقسم الإنتاج منذ عقدين، ويوجد أيضاً عفيف الحاج رحمة ويوصف بأفضل عامل “صبابة” بقسم الإنتاج، وفي قسم المخازن عبد المجيد منا موسى، وأبوبكر حسن الفحل، وجابر عبد القادر عباس، الطيب الأمين عباس، وفي الورشة الزراعية العامل الماهر وليد الضاي كرنجة، وفي القسم الزراعي محمد هاشم بله، والأسماء التي ذكرناها مجرد أمثلة فقط ظلت تعمل بالمصنع بالصفة المؤقتة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، “بعضهم زاملته في العمل بالمصنع قبل 13 عاماً”.

الجدير بالذكر أن الاستيعاب للقسم المالي والإداري يتم عبر المؤهل الجامعي، وهذا حرم الكثير من المؤقتين من أصحاب الخبرات من التسكين في الخدمة المستديمة، ويطالب الكثيرون بإعادة النظر في هذا الشرط، ويشيرون إلى أن أبرز سلبياته تتمثل في أن عدداً من الأقسام توجد بها أعداد بسيطة من العاملين في الخدمة المستديمة وتعتمد بشكل كامل على المؤقتين.

معايير وشروط
ويعود مدير مصنع سكر الجنيد، المهندس علي محمد يوسف الشكري، متحدثاً عن معايير الاستيعاب في الخدمة المستديمة، وذلك حينما قلنا له إن الكثير من العمالة المؤقتة تمتلك خبرات واسعة وأثبتت كفاءتها وتستحق التثبيت في الخدمة المستديمة، فكشف عن أن التسكين ومنذ فترة كان متوقفاً، ولكنه في الفترة الأخيرة تم فتح الباب، ولكن وفقاً لأعداد محدودة، ويشير إلى أن المصنع خلال الفترات الماضية كان يعاني من الترهل وأن الشركة وفي سبيل معالجة هذا الأمر كانت تفضل تعيين الموسميين على أن يتم تصنيفهم حسب الحاجة الوظيفية.

غير أن مدير مصنع سكر الجنيد يكشف عن أن معايير التثبيت ترتكز بشكل أساسي على المؤهل الأكاديمي والذي حده الأدنى الحصول على الشهادة السودانية أو ما يعادلها في التعليم الفني والتدريب المهني والمعاهد الزراعية، وقال إن اللجان تتيح دائمًا الفرصة لأصحاب الخبرة الذين يمتلكون أيضًا المؤهلات المطلوبة، وقال إن التثبيت لم يعد متاحاً مثلما كان في الماضي، وذلك لضيق فرصه، وكشف عن أنهم وبعد جهد كبير تمكنوا خلال الفترة الماضية من تثبيت ستين عاملاً في أقسام المصنع المختلفة، وأوضح أن الاستقالات خاصة على صعيد المهندسين تمثل لهم هاجساً.

350 ملياراً وتساؤلات
يقدر إنتاج مصنع الجنيد لهذا الموسم بخمسة وستين ألف طن وهذا الرقم الجيد من الإنتاج يعادل بالسعر الرسمي لجوال السكر في السوق “قبل الزيادات الجنونية الأخيرة”، مبلغ يقترب من الثلاثمائة وخمسين مليار جنيه سوداني، وهذا يعني أن المصنع يمتلك الإمكانيات المادية التي تكفل له شراء قطع الغيار والمدخلات الزراعية، بالإضافة الى توفير أجور جيدة لمنسوبيه بالخدمة المستديمة والمؤقتة، وفي ظل الأجور المتدنية التى ينالها المؤقتون بمصنع الجنيد نسأل، متى ينصلح حال “ملح الأرض” ، لينالوا أجوراً توازي ما يبذلونه من جهود مضنية نعرفها نحن الذين عملنا بكل أقسام مصنع الجنيد.

الجنيد: صديق رمضان
صحيفة الصيحة