مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : مُكابَرة الشعب العربي


حين صاغ نزار قباني أسئلته التي جاءت على شكل قصيدة “مكابرة”، لم تكن تتعدى ذلك البُعد الفلسفي في علاقة حب غير متأزمة. وعلى الرغم من ذلك، زاد من تعقيدها بمكابرة الذات: “تراني أحبك؟ لا أعلم، سؤالٌ يحيط به المبهم، وإن كان حبي لك افتراضاً، لماذا؟ إذا لحت طاش برأسي الدم، وحار الجواب بحنجرتي، وفرّ وراء ردائك قلبي، ليلثم منك الذي يلثم، أنا لا أحب .. ولا أغرم”.
هذا ما يحدث في الحالات الوجدانية. عندما تدخل المكابرة، فإنّها تلغي كل إحساس سليم ونقي، ويتحوّل أي إصرار على الخطأ وعناد بعدم الاعتراف به، إلى خللٍ في الصدق والشفافية، فكيف إذا تحول هذا الأمر إلى ممارسات الواقع وأشدها سوءاً على الإطلاق، وهو الواقع السياسي العربي على مختلف مستوياته.
من موروثات الاستعمار السخرية اللاذعة والتهكم، فالسخرية كصنعة هي وليدة الفلسفة الغربية القديمة. وعلى الرغم من أنّها ليست نتاجاً عربياً صرفاً، إلّا أنّ مجتمعاتنا أخذتها من منبعها، وتم تلوينها فصارت هجيناً يعكس نوعاً من السخرية الجادة أكثر من الكوميدية. وإذا كانت السخرية الجادة في مجتمعاتنا تعكس نوعاً من لمس بعض الحقائق ممنوع الاقتراب منها، فهي، بتطور الحالة، مكّنت من ظهور حالات أخرى، تتوارى خلفها حقائق كثيرة. إحدى الحالات التي تفرخت من هذه المواراة، وكانت السخرية إحدى طرق التعبير عنها، هي ثقافة “المكابرة” التي نمت على مدى السنوات الماضية في حياتنا العامة، وتفاعلاتنا الشخصية المختلفة. والمكابرة، أو فقدان الرغبة في مواجهة المشكلة بشجاعة، أو حتى الاعتراف بأنّ هناك مشكلة مسألة ترتبط، على نحو ما، بمسألة الصدق مع النفس والآخرين. فعلى المستوى السياسي، تتحول مظاهر الفشل على عدة مستويات إلى حالةٍ يتم تشخيصها مسبقاً بأنّها “مؤامرة”، توجه إليها كل خطوة يقوم بها الآخر”الخصم”، علنياً كان أو مجهولاً. وتفسر هذه المؤامرة أيّ حدثٍ إلى درجة أنّه ساد التفكير بها، حتى باتت تشكل خلفية لكل قدَرٍ وطني. وبهذا، تحجب نظرية المؤامرة رؤية الواقع كما هو.
“عندما تدخل المكابرة، فإنّها تلغي كل إحساس سليم ونقي، ويتحوّل أي إصرار على الخطأ وعناد بعدم الاعتراف به، إلى خللٍ في الصدق والشفافية، فكيف إذا تحول هذا الأمر إلى ممارسات الواقع وأشدها سوءاً على الإطلاق، وهو الواقع السياسي العربي”

يكابر الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، وبعد زمن من الفتن والأزمات التي تسبب بها للشعب اليمني، يعود ليعلن أنّه حليف الحوثيين، ويجاهد للعودة في ثوب حلفائه. ويكابر الرئيس السوداني، عمر البشير، حول مواجهاته اتهامات محكمة الجنايات الدولية، وحول معاناة الداخل، ولا يستمر إلّا بعد أن يصل إلى باب الخروج، فاراً من المواجهة نفسها، ليواصل في مكابرته.
هذه المكابرة على مستوى الرؤساء تقابلها سخريةٌ تعكس نوعاً من لمس بعض الحقائق الممنوع الاقتراب منها، فهي، بتطور الحالة، مكّنت من ظهور حالاتٍ أخرى متفرعة منها، وتتوارى خلفها حقائق كثيرة. توالدت المكابرة من هذه المواراة، وقد كانت السخرية إحدى طرق التعبير عنها، ثم زادت في السنوات الماضية في الحياة العامة والتفاعلات الشخصية المختلفة. تسللت المكابرة من معناها الإصطلاحي بأنّها منازعة في المسألة العلميَّة، لا لإظهار الصَّواب، بل لإلزام الخصم، حتى صارت تعبّر عن حالة فقدان الرغبة في مواجهة المشكلة بشجاعة، أو حتى الاعتراف بأنّ هناك مشكلة، وهي مسألة ترتبط، على نحوٍ ما، بمسألة الصدق مع النفس والآخرين. فعلى المستوى السياسي، تتحوّل مظاهر الفشل على عدة مستويات إلى حالة يتم تشخيصها مسبقاً بأنّها “مؤامرة”، توجه إليها كل خطوة يقوم بها الآخر “الخصم”، علنياً كان أو مجهولاً. وتفسر هذه المؤامرة أي حدث إلى درجة أنّه ساد التفكير بها، حتى باتت تشكّل خلفية لكل قدَر وطني. وبهذا تحجب نظرية المؤامرة رؤية الواقع كما هو، فتعفي من طرح (أو تحليل) عوامل موضوعية اجتماعية واقتصادية أو سياسية، يمكن الإمساك بها والاعتراف بأنّها أصل الداء.
ومنذ توحدت الشعوب العربية على نيل الاستقلال، وحصولها عليه، يتم رفض الاعتراف بأنّ البلاد يحيق بها التمزق، ومعرّضة للانقسام والتشرذم من جهاتها الأربع، بفعل الولاءات الطائفية التي تشكّل محرّكاً أساسياً لكل أشكال العنف فيها. تفرض هذه الولاءات نفسها قوة سياسية بشعة، يقول لنا التاريخ إنّها فُرضت من الخارج “فرّق تسد” حيث استقطب المستعمر بعض الكيانات لمناصرته، قرّب بعضها وبعّد أخرى. ومع ذلك، ننادي من أجل مفهوم الوحدة الوطنية مطمحاً سامياً، من داخل هذه الكيانات، لا من فضاء الوطن.
تفشّت المكابرة، حتى أصبحت ثقافة يتميز بها العرب دون غيرهم، فعلى المستوى الاجتماعي، تتفاعل بعض السلوكيات، لينجم عنها محفزات آلية للدفاع عن بعض الأخطاء والتجاوزات، وذلك لتحقيق نوع من الرضا، أو الإيهام به وتقليل الخسائر الناجمة عن سلوك معين. وفي الخارج، فالعربي يُظهر المواقف الدفاعية المختلفة في أغلب الأحيان، ويخفي مشاعره وعواطفه. وفي أحيان أخرى، رأيه، ويتجنب الصراع، خشية من عدم الاتفاق مع الآخرين، يحاول أن يحافظ على رباطة جأشه أمام المواقف العصيبة. ولكل ذلك، نرى أنّ الشعوب العربية في حالات الأزمات والحروب والكوارث التي تلم بها، لا يظهر عليه جوعٌ، حين تتعذر لقمة العيش، ولا عري حين تتعسر “السُترة”، ولا ألم حين تموت الفرحة في حدقات العيون، وهي بهذا تُعتبر شعوباً مأزومة. وعلى الرغم من أزماتها تحاول الظهور بصورة جيدة ومثالية، في تعامٍ واضح عن كل ما يتعارض مع هذه الصورة المتوهمة.