تحقيقات وتقارير

البلاد دفعت الثمن باهظاً المعارضة والمؤتمر الوطني.. أزمة ثقة


علي الحاج يعترف بوجودها.. نافع ينكرها وضياء الدين يؤكدها
الحزب الحاكم يتهم المعارضة بالمراوغة وتنفيذ الأجندة الخارجية
المعارضة تدمغ المؤتمر الوطني بالتلكؤ وعدم الإيفاء بالتزاماته

“العلاقات البشرية لا تبنى إلا على الثقة”، هكذا يقول منطق الأشياء، غير أن البعض يرى أن الخطر يكمن في الثقة المفرطة لذا يتبع أصحاب هذا الاعتقاد قاعدة “سامح عدوك، لكن لا تثق به”، وعند آخرين فإن الثقة تعني الحياة وهؤلاء يبدو أنهم يمضون على هدى الحكمة القائلة: (الكلمات دون ثقة كالصوت الأجوف لجرس خشبي)، أما بوجود الثقة، فإن الكلمات تعني الحياة بذاتها، فيما يجزم آخرون بأن عدم الثقة والشك من أسباب عدم الاستقرار والدمار، وتظل الثقة بالله أزكى أمل، والتوكل عليه أوفى عمل، وبإسقاط الأقوال المأثورة هذه على الواقع السياسي السوداني تتكشف حقيقة أن عدم الثقة بين الحكومة والمعارضة من أبرز الأسباب التي أسهمت في عدم مبارحة البلاد لمربع الأزمات الذي ظلت ترزح تحت وطأته لعقود، فالقوى السياسية المعارضة ترى المؤتمر الوطني ورغم أيدولوجيته الإسلامية مجرد حزب مراوغ يبحث عن إطالة عمره فقط، ولا يمكن الثقة فيه، فيما يفقد الحزب الحاكم الثقة في المعارضة ويرى أنها تظهر خلاف ما تبطن وإن هدفها إزاحته عن الحكم وحسب، وهنا يبرز السؤال: لماذا تنعدم الثقة بين أطراف المعادلة السياسية في السودان.

ثوابت علمية
قبل الإجابة على السؤال المحوري لتحقيقنا هذا لابد من الإشارة إلى أن علم الاجتماع يشير إلى أن تكون درجة ثقة الشخص هي معيار إيمانه وتصديقه لأمانة الآخر بناءً على معظم الأبحاث الحديثة، فإن فشل وانهيار أي ثقة من الممكن أن يتم مسامحته بسهولة إذا كان الفشل ناتجا عن ضعف في القدرة وليس قلة في الأمانة أو الصدق، ويشير علماء اجتماع إلى أنه ومن هذا المنطلق فإن الثقة حالة عقلية لا يمكن قياسها مباشرة بل من خلال التصرف، وبديلا عن ذلك فإن المرء من الممكن أن يقيس الثقة بالإحساس (مع أخذ الحذر في ذلك)، ويشير الخبير في علم الاجتماع كوليمان أن “الثقة هي حركة تتضمن عمل تطوعي بين اثنين فيجب على الأول أن يظهر ثقته لكي يثق فيه بالضرورة الآخر وإلا لبقى الاثنان فاقدين الثقة في بعضهما البعض”، وفي علم النفس فإن الثقة هي تكاملية للتأثير الاجتماعي فهي التي تسهل التأثير أو الإقناع لشخص بالائتمان على شخص آخر، ويشير المختصون إلى أن الأمانة والإحسان والقدرة هما أشياء ضرورية من اجل الثقة، وإنه عندما يتم فقدان الثقة عن طريق انتهاك أحد المقومات الثلاثة من الصعب اكتساب الثقة مرة أخرى.

اعترافات صريحة
إذن علماء الاجتماع والنفس يرون أن الأمانة هي أساس الثقة، فماذا عن واقع السياسة السودانية؟ الإجابة تأتي مباشرة من قبل سياسيين في الحكومة والمعارضة، يعترفون من خلالها بعدم وجود ثقة بينهم، وآخر من تحدث عن هذا الأمر بشفافية مساعد الأمين العام للمؤتمر الشعبي الدكتور علي الحاج، الذي قال خلال ندوة بالخرطوم عقب وفاة الدكتور حسن عبدالله الترابي “هناك قضايا شائكة متمثلة في انعدام الثقة بين الأطراف السودانية وفجوة كبيرة في الثقة”،

وبقوله هذا فإن الدكتور علي الحاج، لم يتوارَ خلف الكلمات بل وضع يده على ما يعتبره سببا في القضايا الشائكة التي تواجه البلاد، وعلى طريقه مضى أمين التعبئة السياسية بالحزب الحاكم، عمار باشري، الذي قطع في تصريح سابق بوجود أزمة ثقة من الأحزاب المعارضة في إيفاء المؤتمر الوطني بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وإذا كان أمين التعبئة قد تحلى بالشجاعة واعترف بعمق الأزمة السودانية المتمثلة في انعدام الثقة فإن القيادي بالمؤتمر الوطني واحد صقوره الدكتور نافع علي نافع نفى عدم وجود ثقة بين حزبه والقوى السياسية الأخرى، والتي جاء ردها سريعا من القيادي بتحالف المعارضة محمد ضياء الدين الذي قال “توجد أزمة ثقة بين المعارضة والحكومة سببها عدم ايفاء النظام بوعوده”.

اتفاقية الخرطوم والانهيار السريع
ويُتهم المؤتمر الوطني دوما بعدم الوفاء بتعهداته واتفاقياته التي يبرمها مع معارضيه، وهو ما تراه القوى السياسية التي تقف على الضفة الأخرى من النهر، سببا مباشراً في فقدان الثقة بالحزب الحاكم. وبالعودة إلى الوراء وعند تقليب أوراق التاريخ فإن الكثير من الأمثلة والنماذج تعضد قول المعارضة هذا، وهنا لابد من الإشارة إلى أن العشرية الأولى لنظام الإنقاذ لم تشهد اتفاقات كتلك التي شهدتها فتراتها اللاحقة، ورغم ذلك فإن سلوك المؤتمر الوطني في نقض المواثيق وعدم الحرص على تنفيذها وضح جليا عقب اتفاق سلام الخرطوم الذي تم إبرامه مع ثلاثي الحركة الشعبية، الدكتور رياك مشار، أروك طون أروك وكاربينو كوانين في العام 1997، وتلك كانت أول سابقة، وهذا ما كشفه رياك مشار في أكثر من لقاء، حيث أشار إلى أنه أحاط قيادة الدولة علما بعدم تنفيذ ما تم التواثق عليه في الاتفاقية، وإنه حرر أكثر من خطاب لرئاسة الجمهورية والشيخ الراحل حسن الترابي والدكتور علي الحاج يوضح فيها أن اتفاقية الخرطوم للسلام لم يحدث فيها جديد وأن النقاط التي تم الاتفاق عليها (مكانك سر) وذكر في خطاباته أنه مسؤول أمام قواعده الشعبية بجنوب السودان، وحينما وصل الدكتور رياك مشار إلى طريق مسدود حرر مذكرته رقم 12 وقفل راجعا إلى “الغابة”، ليلتحق مجددا بالحركة الشعبية .

اتفاق جيبوتي.. نفض اليد
عقب خروجه مغاضبا في عملية تهتدون وعودته منشرحا في تفلحون في عام 2002 قال إمام الأنصار الدكتور الصادق المهدي، معلقا على اتفاق حزبه الذي وقعه مع المؤتمر الوطني في جيبوتي “ذهبنا لنصطاد أرنبا فاصطدنا فيلا”، في تجسيد للمكاسب الكبيرة التي خرجوا بها من الاتفاق، ولكن صاحب المدرسة السلمية في معارضة الأنظمة الشمولية لم يكن يعلم ما تخبئه الأيام لاتفاق اعتقد بوضعه نهاية لأزمات البلاد وقتها، وما حدث بعد ذلك كشف عنه في لقاء أجريته معه بمقر إقامته في المنفى بالقاهرة وذلك حينما قال: “عقب عودتنا إلى السودان تم تكليف عدد من قيادات حزب الأمة للتفاوض مع النظام حول تفاصيل تنفيذ الإطار العام لاتفاقية جيبوتي، غير أن التفاوض لم يأتِ بنتيجة مثمرة، لذلك نفضنا يدنا عن الاتفاق”، والحقيقة ايضا توضح عدم التزام وحرص المؤتمر الوطني على تنفيذ اتفاق جيبوتي .

أبوجا.. نهاية سريعة
بسخرية ممزوجة بالحسرة ودّع رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي الخرطوم بعد عام فقط من توقيعه لاتفاق أبوجا مع الحكومة السودانية، وذلك حينما وصف نفسه بـ”مساعد الحلة” في تعبير عن التهميش الذي تعرض له داخل القصر الجمهوري، الذي كان يجلس داخله بوصفه مساعدا لرئيس الجمهورية، وظل مناوي يبث شكواه في كل منبر داخلي أو خارجي يتاح له حتى وصل به الأمر أن يحتمي بقواته في دارفور قبل أن يسافر إلى جوبا، والتي قضى بها مدة قبل أن يعلن تمرده مجددا، ليمضي على ذات طريق موقع اتفاقية سلام الخرطوم الدكتور رياك مشار.

اسمرا.. خطوات وعثرات
أما مؤتمر البجا الذي وقع اتفاق سلام اسمرا في 2006 مع المؤتمر الوطني تحت مظلة جبهة الشرق فقد ظل يبث شكواه لعشرة أعوام متتالية من عدم إيفاء الشريك بتعهداته، وهذا ما ظل يشير إليه رئيس الحزب ومساعد رئيس الجمهورية، موسى محمد أحمد في أكثر من لقاء حيث يشكي دوما من عدم إشراك تنظيمه “مؤتمر البجا” في اتخاذ القرارات، ويؤكد أن مشاركته في الحكومة “منقوصة”، وكان كثيرا ما يطالب بضرورة إشراكهم في الأجهزة التنفيذية وتفويضهم بكامل الصلاحيات، واعتبر التوقيع على اتفاقية اسمرا انتقال من مرحلة الكفاح المسلح إلى ما اسماه الجهاد السلمي، ويظل يؤكد رغم شكواه من الشريك إسهام الاتفاق في وقف الحرب بعد التزام حزبه بالعهود والمواثيق وقال إنها الاتفاقية الوحيدة التي صمدت مقارنة باتفاقات أخرى مشابهة.

فترة الشراكة والصعوبات
قبل أن تنفرد بحكومة دولة جنوب السودان فإن الحركة الشعبية وخلال الفترة الانتقالية التي أعقبت اتفاقية نيفاشا ظلت في تشاكس دائم مع المؤتمر الوطني الذي كثيرا ما دمغته بالتنصل والتباطؤ في تنفيذ عدد من بنود الاتفاقية التي أوقفت الحرب الدموية بالجنوب، ليظل تبادل الاتهامات قاسما مشتركا بين الطرفين طوال فترة شراكتهما، وفي عام 2007 وصلت الخلافات بينهما مداها وذلك حينما علقت الحركة الشعبية مشاركتها في الحكم، ووقتها ارجعت الحركة الشعبية خطوتها تلك إلى ما تعتبره تغولا من المؤتمر الوطني على صلاحياتها في اختيار ممثليها في الحكومة المركزية، إضافة إلى القضايا العالقة بشأن تنفيذ بعض بنود اتفاقية السلام أبرزها تقدم النظام نحو مزيد من الديمقراطية، انسحاب القوات المسلحة من المواقع التي تتمركز فيها بالجنوب، ومصير منطقة “أبيي”، وطوال فترة الشراكة ظلت الحركة الشعبية تتهم المؤتمر الوطني بالمماطلة والتسويف في تنفيذ بعض بنود اتفاقية السلام الشاملة، وبعد ست سنوات من المشاكسة والخلافات فضلت الحركة الشعبية الانكفاء جنوبا فيما انفرد المؤتمر الوطني بحكم الشمال دون مضايقات من شريك مثل وقتها قوة موازية له.

الدوحة.. أكثر من احتجاج
أما اتفاقية الدوحة التي أبرمتها الحكومة مع تجمع من الحركات الدارفورية المسلحة التي انضوت تحت لواء التحرير والعدالة فإنها ايضا ظلت محل تجاذبات وخلافات متواصلة بين الشريكين، وكثيرا ما وجه زعماء الحركات التي اختارت السلام في 2011 بالدوحة أصابع الاتهام نحو المؤتمر الوطني وظلت تدمغه بالتنصل عن الإيفاء بتعهداته التي أطلقها بحضور دولي في الدوحة، ورغم ذلك ظلت الاتفاقية وبجهود كبيرة من دولة قطر في منأى من الانهيار إلا أنه وفي منتصف العام الماضي لم يجد حزب التحرير والعدالة القومي برئاسة الدكتور التجاني سيسي غير تعليق المشاركة، وذلك حينما مجموعات داخل المؤتمر الوطني -لم يسمها- مسؤولية عرقلة ﺍﻟﺸﺮﺍﻛﺔ، ويومها قال المتحدث اﻟﺮﺳﻤﻲ باسم ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻭﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ، أﺣﻤﺪ ﻓﻀﻞ، إن المؤﺗﻤﺮ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ تراجع عن اتفاقه بشأن اﻟﺤﺼﺺ ﺍﻟﻮﺯاﺭﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺗﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ مع التحرير والعدالة القومي، وبخلاف احتجاج حزب السيسي فقد ظلت السلطة الإقليمية لدارفور في مرمى نيران التيارات الدارفورية السياسية والاجتماعية التي ظلت تحملها مسؤولية الإخفاقات التي لازمت تنفيذ اتفاقية الدوحة، غير أن السلطة ظلت تقذف كرة الاتهامات في مرمى المؤتمر الوطني بتحميله المسؤولية كاملة، ورغم الاتهامات المتبادلة إلا أنه يتضح جليا تأثير الدور القطري في الإبقاء على جذوة الاتفاقية متقدة وحماية شمعتها من رياح الخلافات الداخلية التي كادت أن تلحقها باتفاقية أبوجا.

الحوار والابتعاد
ومن نماذج الاتهامات التي ظلت توجه للمؤتمر الوطني وتدمغه بعدم الالتزام بتعهداته التي يبرمها مع أطراف أخرى، ما ذهبت إليه حركة العدل والمساواة الجديدة برئاسة المهندس منصور أرباب التي اختارت الانحياز لنداء الحوار الوطني، إلا أنها فجأة ودون مقدمات نفضت يدها وقررت مثلما فعل مني أركو مناوي العودة إلى صفوف المعارضة وذلك في فبراير الماضي، ويشير الأمين العام حذيفة محيي الدين إلى أن الحكومة حاولت تغيير مواقف ممثلي حركته في لجان الحوار بالترغيب والترهيب، وشدد على أن المتطرفين داخل المؤتمر الوطني ليسوا حريصين على نجاح الحوار، وقال إنهم يعملون ليلاً ونهاراً من أجل إفشاله، وقال محيي الدين في حوار مع (الصيحة) من مقر إقامته في العاصمة اليوغندية كمبالا، إن الحزب الحاكم لن يلتزم بالحوار الوطني لأن التيارات الغالبة فيه ضد المخرجات، مؤكدًا أن عدم تنفيذ مخرجات الحوار الوطني سيقود لتعبئة جديدة الخاسر فيها الشعب، وأضاف: نحن الحركة الوحيدة التي شاركت في الحوار بضمانات سودانية على الرغم من تاريخ “الوطني” في نقض للعهود، منوهاً إلى أن حركته ستقود حملة إعلامية كبرى لكشف أساليب النظام في الالتفاف على مخرجات الحوار الوطني.

اتهام مشترك
بالمقابل فإن المؤتمر الوطني ايضا يتهم القوي السياسية المعارضة لنظامه بعدم الإيفاء بتعداتها، ويدمغها برهن قرارها لجهات خارجية، يرى أنها تسيطر على الخط العام للقوى السياسية المعارضة خاصة المسلحة، ومن قبل خرج أكثر من قيادي بالمؤتمر الوطني ليؤكد على أن المعارضة لا تريد وضع حلول لمشاكل البلاد وإنها تسعى بشتى السبل لإسقاط الحكومة القائمة، وعدم ثقة المؤتمر الوطني في الأحزاب خاصة المعارضة والمسلحة كثيرا ما جهر بها قادته خاصة عقب المفاوضات التي يجريها مع معارضيه خارج السودان .

تنازلات
سألت المحلل السياسي الدكتور الحسين إسماعيل أبوجنة عن الآثار السالبة التي انعكست على البلاد جراء انعدام الثقة بين المؤتمر الوطني والمعارضة، فأشار إلى أن القوى المعارضة تتعامل مع الحزب الحاكم بفهم “الجرب المجرب ندمان”، وبالتالي فإن المعارضة تتعامل مع المؤتمر في أي مفاوضات بذهنية التكتيك والمناورات لشكوكها في إيفاء الوطني بتعهداته، وأضاف: ومن هذا المنطلق ذهبت الكثير من المبادرات أدراج الرياح خصما على زمن يبدو الوطن في أمس الحاجة إليه، وعبر هذا المجرى تم تبديد موارد ضخمة خصما على المستقبل، وحول كيفية تعزيز الثقة بين الطرفين يشير الحسين إسماعيل أبوجنة إلى ضرورة تقديم تنازلات من كل طرف حتى تصل بالبلاد إلى وفاق واجماع سياسي يمكن أن ينقذ السودان وينتشله إلى بر الأمان.

الخرطوم: صديق رمضان
صحيفة الصيحة