احلام مستغانمي

أخذ معه كل ذلك الضوء (2011)


مذ رحل نزار قباني ونحن نحاول انقاذ النار التي أشعلها فينا ومضى ذلك الطفل الزوبعة . الشاعر الذى حيث يمر تشتعل بمرورة فتيلة الشعر ، نقف مندهشين أمام رمادنا بعده..
لماذا خالفنا نصائحه ورحنا نؤمّن على حياتنا ضد الحرائق الجميلة ؟ و ما نفع ما ننُقذُه؟ وماذا لو كان الشيء الوحيد الذي أنقذناه حقاً هو كل ما سرقناه من العمر ثم سلمناه وليمة للنار ..نار الأيام لتلتهمه؟
ليس عجباً أن يكون نزار قد غادر ذات ربيع ، وأنهى حياته بطلب كوب من الماء من ابنته هدباء، فنزار قباني حالة نارية قبل أن يكون حالة شعرية، إنه من سلالة بودلير الذى كان يقول ليُثبت غرابته، أنّ أول كلمة لفظها عندما بدأ النطق كانت ALLUMETTE أي كبريت . لا أظن “نيرون” نفسه قد طالب أبويه حال وصوله إلى العالم بالكبريت بدل “البيبرونة ” .وهو الذي أحرق روما في نزوة لهب. فمن أين جاءت نزار تلك النزعة النيرونية لإضرام النار فى تلابيب النساء اللائي أحببنه وأحبهن، كيف أشعل بقصائده أثواب نومهن، وفساتين سهراتهن، ومناديل بكائهن، وكل ما لبسنه لموعدهن الأول معه، أو ما نسينه فى غرفته من عقلهن، بعد موعد حب ؟ و كيف ترك تحت كراسي الطغاة فتيل اللهب . . قبل أن ينسحب .
في ذكرى رحيل نزار
الآن نكتشف ذلك ، وقد توقفت تلك الانفجارات التي كان يُحدثها بين الحين والآخر، فيهزّنا بها، بلداً بعد آخر، وفرداً فرداً. لــــذا، بعد رحيله سَــادَ العالم صمت شعري رهيب، لا لأن شاعراً كبيراً مـــات، ولكن ، لأن وهمنا بالشعر انطفأ، ولم يعد في إمكان أحد أن يجعل مِن تفاصيل حياتنا العادية حالة شعرية.
برحيلـــه، استبشر بعض الشعراء خيراً. وتوقعوا أنهم بموته سيكبرون، وبغيابه سيتقدَّمون صفّـاً. أخطأوا في حساباتهم، الشعر فضّاح لِمَن دونه. قد يزداد شاعر حضوراً بغيابه ويصغر آخر على الرغم من ضوضائه. لـــــذا مَن كانوا في حياته كِبَاراً، مازالوا كذلك، وأولئك الشعراء الذين كانوا أقزاماً سيبقون كذلك، ولا جدوى من وقوفهم في طوابير الشعر. الشاعر كائن لا ينتظر. الشعر هو الذي ينتظره عصوراً.
ما وقف نزار يوماً في الصف. لقد كان منذ نصف قرن، وحتى بعد موته، صفاً في حد ذاته، يمتد مِن أول إلى آخر الخريطة العربية، وعَـلَـمَــاً شعرياً تصطف خلفه أُمّــة بأكملها. كان الصوت الشرعي لعصرنا، وابن القبيلة الذي غَــدَا بانقلابه عليها ملكها.
قـــال: «إنّ المبدعين خُلِقوا ليزرعوا القنابل تحت هذا القطار العثماني العجوز، الذي ينقلنا من محطة الجاهلية الأُولى ، إلى محطة الجاهلية الثانية». وأثناء زرعه تلك الألغام، نسف نزار خلال نصف قرن، كل الشعراء الذين ركبوا قطار الشعر، من دون تَذاكِر، ومن دون أن يدفعوا مُتوجبات هذا اللقب. عاشوا مُعلّقين بأبواب القطارات والمهرجانات الضوضائية.
لقد قضى عمره في ركلهم ودفشهم ومحاولة الإلقاء بهم من النافذة ، دائم السخرية منهم والاستخفاف ، وما سمعوه ولا صدّقوه.
الآن، وقد غـــادر ، وتركهم يسافرون نحو حتفهم في ذلك القطار المجنون، نعي أنه رحل وهو يحاول إنقاذ آخر قصيدة من أيدي مرتكبي الجرائم الشعرية. رحــل وهو يحاول إنقاذ آخر أنثى قبل وصول التتار. ذهب وهو يحاول إصلاح العطل الأبدي في مولِّدات الفرح العربي. لــــذا مات بصعقة كهربائية، مُعلَّـقـاً إلى قنديل الشعر ، أثناء محاولته إدخال الكهرباء في شارع الحزن العربي.
رحـــل آخِــــذاً معه كل ذلك الضــــوء.