احلام مستغانمي

من “حديث الرّوح ” للأديب الراحل أحمد أمين


«الأيام التي لا أخلو فيها إلى نفسي ليست محسوبة ، لا أعدُّ يوماً لم أتمكن فيه من هذه الخلوة. سواء أكان ذلك في رحلتي أم إقامتي. في خلوتي أفكر في ما جرى. فأحياناً أرى أنه يوم عادي لم يَجرِ فيه إلا ما هو مألوف، وأحياناً أرى ما يهز مشاعري ويُقلق عواطفي، وأكتشف مثلاً، أنّ مَنْ كنتُ أعدّه صديقاً وفيّا باع صداقتي بأرخص الأثمان، وصدر عنه ما يدل على الجحود والنكران، وتَقرّبه منّي كان لحاجة، فلمّا قضى حاجته تنكّر وقلب ظهر المجن. وسألت نفسي في إحدى الخلوات: هل تَودُّ أن تعود إلى مرحلة الشباب؟ فأجابت: إنْ كانت الحياة تعود والشباب يرجع مع التجارب القديمة، وبعقل جديد قادر على الاستفادة مما حصل، فاهـلاً وسهـلاً. أما إن كان الشباب يعود بالعقل الماضي فلا خير فيه، ولا نفع من تكرار التجارب السابقة. ولو قُدّر لي الاستفادة من تجارب الماضي لكرهتُ الإفراط في كل شيء، حتى الفضائل. فالإفراط في القراءة والكتابة كالإفراط في التدخين، كلاهما ضار، ولأبْدَيت سخريتي بمن يتعب جداً في جمع المال. وقد علمتني الحوادث أن لا شيء يساوي الصحة. وأن أقرب أقربائي، بما فيهم أولادي، لا يستحقون أن أضيّع صحتي في سبيل إثرائهم. وأحياناً، أستغرق في التفكير في أحوال الأمّة، وذلك حين يستشري الفساد فيها. وأحياناً، أفكر في ما هو أوسع من ذلك، في ضَـيَـاع فلسطين وضَـيَـاع الأندلس، بل أحياناً أفكر في ما هو أوسع من ذلك، في الإنسانية جَمْعَاء، وكيف يغيب عن زعماء العالم، أنّ في الحرب ضَرَراً للجميع، سواء أكان المنتصر منهم أم المنهزم. وأنّ الغاية التي يسعى إليها الزعماء، مهما كانت، لا تساوي ما يُهْدَر في الحروب من دماء وأموال، وأنّ الجهود العلميّة لو بُذلت في خير الإنسانية، لتَقَدّمَت الإنسانية ولكان الناس إخواناً، وأنّ العقل الضيّق وحده هو الذي جعل فروقاً بين الشرق والغرب، والمسلمين والمسيحيين واليهود، وأنّ الناس لو عَقَلُـوا لرأوا أنّ الدين لله وحده، ولا فرق بين البشر. وأحياناً تثور عاطفتي الدينية، إذا فكرت في تَردّي حال المسلمين وضعفهم وانحلالهم. وقارنتُ بين جهلهم وعلم الأوروبيين، وفقرهم وغنى الأوربيين، وتَفرُّق كلمتهم وسوء أحوالهم الاجتماعية، والأسباب التي أوصلتهم إلى التدهور. هل هي الحكومات المستَبِدّة الظالمة، أم هُـم رجال الدين الذين يُمنّونهم بالآخرة وترك الدنيا، أو هو سوء عقيدتهم في القضاء والقدر والتواكُل والكسل والإهمال، أم كل هذه الأسباب مُجْتَمِعَة؟»