جعفر عباس

هاشم الرفاعي مناضل باسم


يوافقني الرأي صديقي الشيخ الجليل الدكتور عبدالسلام البسيوني، بأن الإعلام العربي والعالمي نجح في تقديم العلماء المسلمين، على أنهم – على حد تعبيره «قوم شديدو الغلاسة، ثقيلو الدم، منفرون، كما نجح في أن يضفي على رجال الكنيسة سمات السماحة والبشاشة، حتى سماهم (مبشرين)! تخيل: هؤلاء مبشرون، وأولئك مكشِّرون».
ولكن وكما قلت في مقالي هنا أمس، فإنّ نفرا من الوعاظ والخطباء والأئمة، ما زالوا يحسبون أن التجهم متمم للوقار، وأن الابتسام والبشاشة والضحك، لا تليق بالعلماء، ومن يقرأ كتاب البسيوني «شيوخ ظرفاء»، سيدرك أن أعلام علم الشرع الحقيقيين، الدعاة الفاهمين، الذين صقلتهم التجربة، من أظرف الناس مجلسًا، وأحضرهم بديهة، وأخفهم دمًّا، ولا أحسب أن شخصا من أبناء جيلي كان متابعا للشؤون والأحوال العامة في بلاد «من المحيط إلى الخليج»، لم يسمع بالشاعر المصري الراحل هاشم الرفاعي، وقصيدته التي رثى فيها شخص ما نفسه وهو على بعد ساعات من منصة الإعدام: أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني / والحبلُ والجلادُ ينتظراني / هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ / مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجُدْرانِ / لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها / وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفاني
مات الرفاعي مقتولا في عام 1959 وهو دون الخامسة والعشرين، ولم يستغرب من يعرفونه أن يتم اغتياله وهو الذي ظل يناطح الحكومات منذ عهد الملك فاروق (ابن نازلي): يا فتية النيل الممجَّد إننا / نأبى ونرفض أن نساق قطيعا / هذا «ابن نازلي» للهلاك يقودنا / جهراً ويَلقى في البلاد مطيعا / فإلى متى هذا الخنوع وإنه / جرم أضاع حقوق مصر جميعا.
وهاشم الرفاعي، وبحكم تعليمه وثقافته «شيخ»، فقد صمد في المعاهد الأزهرية طويلا، وأكمل تعليمه في كلية دار العلوم، ثم انقلب على الأزهر وبكاه ونعاه: قف في ربوع المجد وابك الأزهرا / واندبه روضًا للمكارم أقفرا / واكتب رثاءَكَ فيهِ نفثةُ موجَعٍ / واجعل مدادَكَ دمعَك المتحدرا / المعهد الفردُ الذي بجهاده / بلغت بلاد الضاد أعراف الذُّرَى / سار الجميع إلى الأمام وإنه / في موكب العلياء سار القهقرَى / ما أبقت الأيدي التي عبثت به / من مجدِه عرضًا له أو وهرا……..
هذا الشاب النابه، الذي ناطح مشايخ الأزهر وحكم الملك فاروق وجمال عبدالناصر، وحاز شهرة تجعلك تحسب أنه عاش قرنا ولم يمت عن 24 سنة فقط، لم يكن يرى أن الدعابة تنال من كونه صاحب مبدأ وقضية، وإليك ما قاله عن رحلة مع رفاقه في الأزهر، وانظر كيف يمكن لشخص كهذا، أن يكون لطيفا ظريفا خفيف الروح: أتيْتُ إلى هذه الرحلةِ/ أجرِّرُ أذيَالَ كاكولتي / وقيل ليَ: الزيَّ لا تنْسَهُ / فلمْ تنجُ رأسيَ منْ عَّمتي / وقد لبس الكلُّ ما عندهمْ / من البنطلونِ إلى البدْلةِ / وإن أنسَ لا أنسَ أمرَ الطعامِ / وها نحن لمْ نلْقَ زادًا لنا / سوى العيشِ والمِلحِ والجبنةِ ,
هاشم الرفاعي الذي ينتقد حال أزهر وحكام زمانه، على ما جرَّه عليه ذلك من ويلات، هو نفس قائل الشعر «الحلمنتيشي» أعلاه، وهو نفس من بكى على «أطلال» الأزهر: سل موئل الأفذاذ من أشياخه / عن معشرٍ كانوا به أُسْد الشَّرَى / العاملين لرفعة الإسلام ما / منهم كَهامٌ قد ونى.. أو قصَّرا / كانوا المنار إذا الدياجي أسدلت / ثوبَ الظلام هدى الأنام ونوّرا / كانوا لمن ظُلموا حصون عدالةٍ / كانوا الشكيم لمن طغى وتجبَّرا
والشاهد هو أن الدعابة المهذبة والظرف لا ينزعان ثوب الجدية عن صاحب الرسالة والمبدأ. بالعكس تجعلانه قريبا إلى النفوس.