مقالات متنوعة

حصة الحمود الصباح : الإسراء والمعراج.. دروس وعِبر


احتفلت الأمة الإسلامية بذكرى الإسراء والمعراج، وهي الذكرى التي تجدد لنا سنويا بعض المعاني العظيمة، التي تميز الرسالة المحمدية الإنسانية وقيادتها الروحية للبشرية أجمع.. هي الرسالة التي أراد الله أن ينتزع بها البشر من خطاياهم إلى رحاب وأفق الإنسانية الواسعة.

الإسراء والمعراج ليس مجرد حدث عادي أراد الله به أن يخفف من معاناة نبيه بعد عشر سنوات من المعاناة والجحود بين قومه في مكة، وبعد فقدانه لأقرب الناس إليه (عمه أبوطالب)، وزوجته الحنون الصديقة خديجة، ولكن هي مرحلة فاصلة ارتقى فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، من جفاء أهل الأرض وقسوتهم إلى احتفاء الله به وتكريمه له بأعلى مقامات العبودية لله، فالمعراج كان عروجا وارتقاء في المكانة وليس المكان، فالله موجود معنا أينما كنا وحيثما نكون، ويريد الله بقوله تعالى “سبحان الذي أسرى بعبده”، أن يبين لنا المعنى الحقيقي للعبودية له، فلم يقل الله برسوله، ولكن بعبده، ومن هنا يتضح لنا أن الله نقل نبيه من مقام البشرية المادية إلى أرفع المقامات الروحانية في العبودية لله، فالعبودية لله هي الإنسانية في أعلى درجاتها وأرقى معانيها، فكلنا في مقام البشرية وكينونتها وخصائصها من دوافع وغرائز ونوازع وجبلات نتساوى فيها، ولكن ليس كلنا إنسانيين، فالعبودية لله والإنسانية درجات ومقامات لا يعلمها إلا الله، ونبينا الكريم قد أوصله الله بعبوديته إلى الإسراء والمعراج، وهي أعلى المقامات التي لم يصل إليها أي مخلوق قط.

كانت رحلة الإسراء والمعراج مكافأة السماء للنبي بعد كفاح وجهاد عشر سنوات، وبعد رحلته للطائف، التي لقي فيها من سفهائهم الوجه المتجهم، والرد الخبيث الذي يفتقد معاني المروءة والشهامة وكرم الضيافة، بل وجعلوا أطفالهم وسفهاءهم يلقونه بالحجارة حتى أدميت قدماه الشريفتان، فلم يكن رده إلا الدعاء لهم بالهداية، وأن يُخرج من أصلابهم من يوحّد الله.

إن ما لقيه النبي ومعه أهله من بني هاشم من حصار اقتصادي في الشعب لثلاث سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر، يمثل قمة الإخلاص في التفاني، ودعوة الناس إلى المنهج الحق والصراط المستقيم، وعموما ما لقيه النبي، صلى الله عليه وسلم، في السنوات العشر الأولى من بعثته تضيق المقالات والمجلدات عن وصفه، لذلك كانت هذه الرحلة العظيمة للتسرية عن النبي، والتخفيف عنه بعد كل ما لقيه من جفاء وقسوة وألم، وكأن الله يريد أن يعلمنا أن الجهاد الحقيقي في الوصول لمرضاته هو جهاد النفس والصبر حتى ينعم علينا بنعمة اليقين، ويرفعنا إليه في مقامات العبودية والإنسانية، وذلك هو الفوز العظيم.

لقد أراد الله برحلة الإسراء والمعراج أن يمتحن المؤمنين الموحدين في زمن رسول الله وإلى يومنا هذا، فأنكر منكرهم وسخر ساخرهم وآمن مؤمنهم، وهذا أكبر رد على المجتهدين الجدد الذين أثبتوا الإسراء ولم يثبتوا المعراج، تارة لأسباب شرعية، بحجة عدم ذكره صراحة في القرآن، وتارة لاستحالته علميا وفيزيائيا، فكما أراد الله أن يرفع به مقامات المؤمنين ويرفع من همتهم وجهادهم في سبيله، كذلك أراد أن يفتن به المتشككين، وذلك من سنن الله التي تجري في خلقه وبينهم في كل زمان ومكان، وكلٌ يسير على درب أسلافه، فالغيب والشهادة هما وجهان لعملة الدين، والأدلة المتواترة في القرآن والسنة تثبت معراج النبي، والاختلاف على المعراج هل كان بالجسد أم بالروح لن يفيد القضية الإيمانية في شيء، ولكن هو امتحان للقلوب المؤمنة، ودروس عظيمة بأن المجاهدين في سبيل الله بالعبودية والإنسانية سيجزيهم الله خير الجزاء في الدنيا والآخرة.

يقول حجة الإسلام أبوحامد الغزالي، إن وجود النور والظلام يثبت وجود كليهما، فكيف نعرف الضوء من دون معرفة الظلام؟ والعكس صحيح، فلو وجد الضوء باستمرار لما عرفنا ما هو الظلام، وهذا في حق قوانين المخلوقات، ولكن العارفين بالله يقولون إن الله من فرط ظهوره وديمومة آياته خفي عن الجاهلين.
لذلك علينا في حياتنا الدنيا القصيرة أن نضع معاناة النبي في بداية بعثته نصب أعيننا، لكي نعلم بأن الوصول إلى رضوان الله يمر بجهاد أنفسنا، وكثرة الدعاء والتضرع، والرجاء أن يعوضنا بخير ما يعوض به الصالحين من عباده.

إن أمتنا الإسلامية في أشد الاحتياج لتلمس العبرة والعظة من هذه الذكرى الطيبة المباركة، حتى يتحرر الأقصى من أيدي الصهاينة المعتدين، ويجب أن تعلم الأمة الإسلامية أن القيادة الروحية للعالم انتقلت من بني إسرائيل إلى أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، ولكي نحقق هذه القيادة علينا أن نتحقق معاني ودروس الإسراء والمعراج.

ليلة الإسراء والمعراج ليلة غُسلت فيها أحزان الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد عام الحزن، فاللهم كما جعلتها ليلة دخول الفرح والسرور على قلبه الشريف، صلى الله عليه وسلم، بعد أن طال حزنه، فاجعلها ليلة فرح وسرور على أمته، وخفف اللهم آلامها.. واشف بفضلك سقمها.. وارفع عنها ما حل بها من أذية وبلية.. اللهم قد وعدت نبيك في كتابك العزيز “ولسوف يعطيك ربك فترضى”، فلا تحرمه يا الله من رؤية ما يسره في أمته.. اللهم آمين.