تحقيقات وتقارير

باستثناء الكسبرة والشمار.. كل البهارات ربما كانت البلاد تستوردها من الأصقاع البعيدة والجيران وبالعملة الحرة.. سلة.. عزاء السودان


“سلة غذاء العالم”.. وصف يبدو أنه سيلازم البلاد كثيراً، على الأقل عندما يتعلق الأمر بتعزية أنفسنا، وبينما يعتمد السودان اعتماداً رئيسياً على الزراعة، بحيث تمثل (80%) من نشاطات السكان، وفي وقت تتميز فيه أراضيه الشاسعة بخصوبة نادرة، فإن المفارقة العجيبة تظل تُحكى على النحو التالي؛ إننا نستورد (التوابل) من دول مثل الهند ونيجيريا، مع أنهما لا يتفوقان –على الأقل من وجهة مناخية- على أرض النيلين. ويستورد السودان من هاتين الدولتين البهارات جميعها إلا قلة، رغم أن هنالك العديد من المناطق التي استحقت فيما سبق وصف (مناطق إنتاج تاريخية) للتوابل، مثلما هو الحال في شمال السودان، بحسبانه منطقة ملائمة لزراعة أنواع عديدة منه؛ بحسب الجيلي العبيد، تاجر الخضروات والفاكهة بالسوق المركزي، أم درمان. ويقطع محدثي بإمكانية زراعة الشمار والكمون الأسود بمناطق شمال السودان أيضاً، فيما يجزم بأن منطقة جبل مرة تصلح لزراعة الزنجبيل، والعرق الأحمر والشيح والفلفل، وأواسط وشرق السودان يصلح لزراعة المحاصيل ذاتها التي تزرع في شمال السودان بالإضافة إلى الثوم والحلبة.
ويشير عبيد إلى أن المحاصيل التي ينتجها السودان تمتاز بسمعة ممتازة وشهرة عالمية كبيرة نسبة لجودتها وخلوها من الأسمدة والمواد الكيميائية الأخرى.

الجيلي يشير خلال حديثه لـ(اليوم التالي) إلى أن عدة مناطق في السودان تصلح لزراعة الزنجبيل، وسبق أن زُرع وأنتج إنتاجاً وفيراً، وتميز على المستورد بميزات كثيرة، منها أن رائحته كانت نفاذة، ولونه شديد الخضرة لكن زراعته –بحسب الجيلي- توقفت لأسباب مجهولة.
حسناً، خلال جولة قامت بها (اليوم التالي) بأسواق التوابل والبهارات تكشف لنا أن كل البهارات المعروضة في الأسواق حاليا ربما كانت البلاد تستوردها بالعملة الحرة (الدولار) من الهند ونيجيريا ودول أخرى كما أفاد عبدالرحمن فرح، تاجر توابل بسوق ليبيا، وأبدى عبدالرحمن دهشته لأن يستورد السودان أشياءً كالزنجبيل الأبيض والفلفل والشيح من نيجيريا ويستورد العرق الأحمر والقرفة والحلبة والكمون الأسود من الهند.

ودهشة عبدالرحمن فرح تبلغ مداها حين يشير إلى أن الشمار والكسبرة هما المنتجان السودانيان الوحيدان اللذين يفرضان وجودهما في سوق التوابل بطوله وعرضه، أما ما تبقى من توابل وبهارات رغم إمكانية زراعتها بمناطق كثيرة داخل السودان، لكنها تستورد بالدولار من دول لا تتفوق على بلادنا ولا تملك مقوماتها الإنتاج من أرض خصبة وأمطار تهطل لعدة أشهر، ونيلين يشقان البلاد طولاً. ويلفت عبدالرحمن إلى ضرورة توطين محاصيل زراعية بسيطة مثل هذه التي تكلف الدولة عملة حرة طائلة كان يجب صرفها على سلع وخدمات لا نستطيع إنتاجها داخلياً، وضرورة توطين المنتجات الزراعية ورعايتها يضعها عبدالرحمن على عاتق وزارة الزراعة التي لا تنحصر مهمتها في التخطيط للإنتاج والإرشاد فقط كما يقول، بل يجب أن “تحرس” المحاصيل السودانية التي التفتت لها بعض الدول وعملت على توطينها لديها؛ مثل الكركدي الذي أنتجته دولة على أراضيها باستنبات عينات “أخذت من السودان”، كما يقول، وصارت تصدره للدول الأخرى بعد أن كانت تستورده من السودان، ففقدنا أسواقاً مهمة كانت تستورد الكركدي السوداني لكنها اتجهت للاستيراد الآن من تلك الدولة الآسيوية. بجانب ذلك فإن إنتاج الكركدي يصدر خاما لدولة مثل مصر وهنالك يعملون على إعادة تعبئته وفق معايير التعبئة العالمية ويكتب عليه (صنع في مصر) ويصدر للاتحاد السوفيتي..!!

إستيراد التوابل على بساطتها يكلف خزينة الدولة أموالاً طائلة وليت الأمر يقف هنا لكنه يتجاوزه لجيب المواطن وتتصاعد أسعاره كثيرا تبعاً لارتفاع الدولار.. يوضح محدثي أن رطل كل من الزنجبيل والعرق الأحمر والغرفة يبلغ سعره (28) جنيهاً، والشيح (35) جنيهاً، بينما رطل الحلبة بلغ (15) جنيهاً، ورطل كل من الكمون والفلفل (40) جنيهاً، فيما بلغ سعر رطل الكسبرة (27) جنيهاً والشمار (26) جنيهاً.

ومن شأن إتساع الأراضي الصالحة للزراعة مع تباين أنواع التربة وتفاوت خصوبتها في السودان أن يجعلها بيئات مناسبة لزراعة طيف عريض من الأنواع النباتية من دون استعمال الأسمدة الكيميائية وهنالك أشياء لا تحتاج لسماد ولا لرعاية حتى؛ كالقونقليز، إذ هو ثمار شجر التبلدي وهو من المشروبات السودانية الخالصة كما يظن الناس، ولكنه كما أشار أحد التجار لـ(اليوم التالي) إنه أيضاً صار يستورد من دولة نيجيريا ويباع بأسعار مطابقة تماماً للمنتج السوداني، الذي تشتهر به المناطق الحارة والجافة بغرب السودان.

عدد من الذين تحدثوا لـ(اليوم التالي) من التجار والمزراعين استنكروا بشدة إهمال الدولة ممثلة في وزارة الزراعة وعجزها عن حماية المحاصيل السودانية كالكركدي والفول السودان حتى صارت دول بعينها تزرعها وتصدرها، وأيضا عجزها عن توطين محاصيل غاية في البساطة ولكنها تكلف الدولة مليارات الدولارات سنويا لاستيرادها من الخارج رغم توافر العوامل التي تساعد على زراعتها داخلياً.

الخرطوم – طيبة سرالله
صحيفة اليوم التالي