حسين خوجلي

قصة قصيرة ضد الأزمة


(1)
> محض الصدفة جعلت عربتي تقف في نفس اللحظة مع عربة أخرى فارهة وجديدة.. نزلت منها فتاة أنيقة باهرة بلا ثوب وبلا حجاب.. واترك للقارئ بعدها حرية اختيار الفستان والمكياج والعطر والحضور.. إنها من نوع بنات البنادر التي حين يراها صديقنا الإقليمي (العوض) يصيح بصوت ملؤه الوجع (مافي طريقة يا بت الريل.. لكن الجنة في)..!!
> نزل في إثرها فتى أنيق في تَرَف وظريف في إغراق.. كان يلبس فانلة يطلّ منها وجه المغني الأمريكي الشهير (جاكسون).. وتقفز من عينيه وعينيها كل أقمار الإنبهار الغربي القائم.. «منظر لو رآه المثقافتية» لقالوا إنه الاستلاب الحضاري بعينه!! وفي إثره وإثرها انطلق طفل في السادسة وديع أمسك بي في لهفة وتصميم وصرخ منادياً (بابا حسين.. أنا نادر)!!
انتبهت حينها لأرى بصورة أكثر وضوحاً ولأسمع بحدّة تجعلني أعي ما يدور.. وأعترف أنني قد فشلت في النظر والانتباه.. فقد بدأت ستائر المساء الزرقاء تنزلق على جسد الخرطوم الممشوق في تؤدّة وقد تعالى صوت الفنان بالشدو الجميل.. نسيت أن أقول لك عزيزي القارئ إنني أمام أحد أندية الامتداد الشهيرة لحضور حفل عرس لأحد المعارف.
(2)
وضعت يدي باضطراب واضح على رأس الصغير الذي عرفني ولم أعرفه ولإزالة الحرج هنا.. تقدمت مني الأميرة وحيّتني باسمي وأضافت لها ابتسامة صغيرة وعرّفتني بنفسها بأنها (فلانة) أرملة (فلان) صديق العمر الذي ذهب قبل عامين في حادث حركة مؤسف..!! تدحرجت عيناي نحو التراب وبحلقت فيه مليّاً.. ولم أقطع التأمل إلا حين اقتربت منّي خطوات الفتى.. فقالت هي في دلال بيّن الصنعة والوقار: إنه فلان «زوجي الجديد»..
بحلقت من جديد في وجهه؛ تراب من نوع جديد مغسول ومدهون لامع، ولكنه على أي حال (تراب)..
وصمتنا نحن الأربعة.. وهذه هي المرة الأولى التي أحسُّ أنه ليس في الصمت كلام.
(3)
دلفنا نحو الاحتفال وجلست وحيداً.. وانفتح أمامي شريط الذكريات.. صحيح أن الراحل كان يكبرني بسبع سنوات ولكنه كان صديق العمر والسوق.. والشعر والسفر ومريخ هلال.. وأحاديث البطانة ونكات العاصمة والسخرية من الأغنياء الأغبياء، مع أن أسرته كانت تبكي وتضحك مالاً.. كان صديقي متعجلاً في كل شئ ولكن بنظر. كان يفعل في يومه كل ما يريد كأنما كان يطارد المسكين الليالي.
أثرى بسرعة وشيّد قصره بسرعة وتزوّج بسرعة وأنجب بسرعة!! وفي ليلة حزينة رحل في حادث حركة مشئوم.
(4)
قضيت مع أسرته شهراً كاملاً حتى انقطعت الدموع.. وحتى دبّ النسيان والسلوى إلى قلوب الأخوة والأب، وحين تجاسر الأقرباء في الدردشة حول السياسة والكورة وحنان بلوبلو والنقر اختفيت حاملاً حزناً وافراً لصديق غائب في رحلة أرجو أن تكون عامرة بالرضى والمغفرة وحسن المآب.
(5)
وقد كنت بعد كل حين وآخر أزور الدار الكبيرة والتقي بنادر الصغير ويلقاني بالذكرى والهدايا والابتسامات والرجاء أن يحل الابن مكان الأب.. ولكن لعن الله السياسة والصحافة فقد أكلتا زمني ووقتي وراحتي فجفاني الأصدقاء الذين أفنيت زهرة أيامي في تأليفهم وتجميعهم ومواصلتهم.. وفي غمار الحياة صار نادر ووالده وأسرته رقماً في الخاطر.. حين نسترده بالتذكار نأسى مرة ونفرح مرة وتدور الأيام كالموجات المسافرة للشمال.. السفر الطويل الذي لا عودة بعده.. السفر الحزين الذي يدفن موجات النهر الخالد العذبة في موجات الملح الأجاج.
(6)
جلس نادر بقربي ولم ينادي عليه أحد، لأن الأم العروس وزوجها الصغير تلاشيا وسط أمواج الفرح والرقص.. ومن بين فتحات الأذرع كانا يراقبان (نادر) في حِجري يستمع لصديق أبيه القديم فيبتسمان كأنما وجدا في اللحظة حلاً لحريتهما التي كاد يُلجمها الصغير.
(7)
قلت له: يا نادر دعني أقص عليك من أمر النساء القصة التالية: قال الشاهد إن عاتكة بنت عمرو كانت من أجمل نساء قريش تزوّجها عبدالرحمن بن أبي بكر وكان من أحسن الناس وجهاً فلما دخل بها غلبت على عقله
وأحبّها حباً شديداً حتى قال أهل المدينة إن أبا بكر طلب منه طلاقها ولذلك حديث طويل.. ولكن عبدالرحمن البطل العاشق فارقها مجاهداً واستشهد عنها يوم الطائف مع الرسول الكريم.. وقد جزعت عليه جزعاً شديداً وامتنعت عن الطعام والشراب وقالت ترثيه:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة
عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا
ثم تزوّجها بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، ودعا الناس إلى وليمته فلما انقضى الناس قال سيدنا علي: لعمر يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام عاتكة حتى أهنّئها وأدعو لها بالبركة.. فذكر ذلك عمر لعاتكة فقالت إن أبا الحسن فيه مزاح ولطف ودعابة فائذن له يا أمير المؤمنين.. فأذن له فرفع جانب الخدر فنظر إليها فإذا ما بدا من جسدها مضمّخ بالخلوق، فقال: يا عاتكة ألست القائلة:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
ابتسمت بحزن. ولحق بي نادر ضاحكاً ولم يفهم من الأقصوصة إلا جدّيتي في الاسترسال وخبرتي في الحكايا.
(8)
وفي الحادية عشرة انفضّ السامر.. وخرج الناس وسار معي نادر إلى البوابة حيث التقينا مع أمّه العروس وزوجها وقد تلاومنا بأنهما لم يحدثاني بالمناسبة السعيدة (اعتذر هو واعتذرت هي بأن الأمر كله قد تمّ بسرعة).تمتمت في داخلي: مثل سرعة رحيل الفقيد!!
(9)
وقبل أن نفترق قلت في داخلي هامساً نحن لا نحسدك على الورثة ولا الإبدال.. ولكن كان يجب أن يكون العريس (شيخ عرب) مثل المرحوم، يحب (الدمور) والمركوب الفاشري والدوبيت ويترك شاربه بلا حصاد.. ولكأنّي بها تردّ هامسة (إنها الدنيا وإن ما فعلته هو عين الحلال).
قلت صامتاً: نعم إنه حلال ولكن ليس حلالاً يُلَف بالفرح والترانيم والأغنيات فأغلب المباح في زماننا هذا حزين ودامع وجارح.
انزلق نادر من يدي ولكن قبل أن يغوص في قافلته الجديدة انزلقت دمعتي على ذراعه فالتفت في جزع وغاب في عربة أبيه المسافرة الأنيقة.
ودّعتني القافلة وانطلقت الفارهة لا تلوي على شئ.. وبقيت برهة من الزمن فأطل الصديق من وراء غيم المجهول يتغنّى:
يوم بنداور البكرة ونمُصروا ثديها
ويوم بنشُق عتاميراً بعيدة وتيها
يا نفس السواد المتعة كمّلتيها
أبقي لزومه وكت القُرعة وقعت فيها
وحين قاربت الساعة منتصف الليل ارتعشت الثُريّا الساهرة وارتعشت قلوب الحيارى والعارفين ورحلت الثواني بيوم جديد من أيام الخرطوم المثقلة بالأحداث.