رأي ومقالاتمقالات متنوعة

عبد الجليل النذير الكاروري : فقه المشاركة السياسية ومستقبل الحكم في السودان – التعددية الحزبية – رؤية تأصيلية


الثقيفة البرلمان الأول:
إن أبرز اختلاف في المدينة يشير إلى الثنائية فيها هو ما حدث في ثقيفة بني ساعدة من حوار حول الخلافة والرئاسة بعد الوفاة، فكل من المجموعتين الأساس– المهاجرين والأنصار- عبرّ عن أحقيته في الأمر! في تداول يجعل الثقيفة البرلمان الأول، حيث تأسست الدولة الراشدة! فإن الوفاة من دون تحديد خليفة كانت أعمالاً للنص الشورى. وحاشا لنبي الإسلام أن يخالف أمر الله، فترك الأمر شورى، مع إشارات هادية ليبقى ذلك المثال من الخلاف الرفيع بين خير الأجيال – خير القرون قرني – واستمر الرشد في استخلاف عمر وعثمان – مع اختلاف الطريقة –
وكان الافتراق الثاني بعد ثنائية المهاجرين والأنصار، في علي ومعاوية، حيث انقسم الأمر بين بني أمية وبني هاشم، وجغرافيا إلى مركزين الشام والحجاز، وهي ثنائية أضرت بوحدة الصف لكنها أدت إلى توسيع “الملك”، فإن بني أمية هم الذين أقاموا دولة الإسلام بالغرب، حيث امتدت لثمانية قرون، كما أنه في عهدهم قويت شوكة الدولة بالشام والذي كان من قبل مستعمره أوربية لعشرة قرون كما قدمنا.
إذن واقع صدر الإسلام رغم آصرة الدين حوى التعدد الذي بالثقافة شكل وحدة بتحويل الشعوب إلى أمة ﴿ يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾ الحجرات 13، فكانوا بالتعارف والتقى﴿ خير أمة أخرجت للناس﴾ آل عمران 110 فلا نشقى بالتباين السياسي، إذن فهو طبيعة المجتمعات إذا اعتصمنا بالدين لنكسب قوة الأمة وثبات الدولة ومرونة التداول. ولا نشقى بالتعدد الاثني إذا كان التقويم بالتقوى.
إذا قررنا بالتأصيل أن السنة المجتمعية هي الاثنية والسنة السياسية هي التداول ﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ ﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء﴾ آل عمران26 ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾ آل عمران 140 وإن الخلافة الراشدة كانت مثالاً في الخلاف وفي التداول وهذا من رشدها، فما هو السبيل لإصلاح الأمة سياسياً بأن تبلغ الرشد من جديد إقراراً لسنة التداول وما هو الشكل المناسب من أشكال الحكم لهذا العصر ولكل مصر؟
هل هو في الإبقاء على الملكية كماسك للدولة مع تفويض وزاري ورقابة برلمانية – كما في المملكة المتحدة – أم بالنظام الجمهوري – كما في الولايات المتحدة – أم بالنظام البرلماني؟ وما هو الأصلح لنا؟ التعددية الحزبية كما في بعض دول الغرب أم الثنائية التي استقرت في أكثر الدول تبايناً – أمريكا – فكانت لها عاصماً، فقد عرفت فرنسا الانقلاب – وما ديجول إلا جنرالاً! بينما سلِمت أمريكا حتى الآن من انقلاب! رغم أنها تستوعب كل سنة سكاناً من مختلف الدنيا يزيدونها تبايناً وتماسكاً في الوقت نفسه!

تقويم النظام الحزبي
لنحكم على النظام الحزبي – قبل أن نختاره – لابد أن نتعرف عليه، فقد أتيح له من الزمن ما يكفي لتقويمه، فقد عرف العالم النظام الحزبي منذ النهضة الأوربية، فكيف كان حكمه عليها؟
الأحزاب السياسية بين السلب والإيجاب:
الظاهرة الحزبية من الظواهر السياسية والدستورية البارزة في هذا العصر، باعتبارها ضرورة مهمة وركيزة لامة تقوم عليها الأنظمة السياسية خاصة البرلمانية منها، إلا أنها لم تنج من سهام النقد التي ترتكز أساساً على نفي الارتباط الحتمي والتلازم بين الأحزاب السياسية والديمقراطية، بل إن الديمقراطية – التي هي مثال العصر – في صورتها الكاملة المطلقة، كما نادى بها “روسو” وكما يراها البعض لا يمكن أن تستقيم في مجتمع حزبي!
وفي جانب آخر، نجد الرأي المتحمس والمدافع عن هذه التنظيمات باعتبارها أداة للتعبير الديمقراطي السليم.
فالأحزاب عندهم هي الأدوات اللازمة لمباشرة الديمقراطية، بدونها لا يتصور وجود ديمقراطية!
الأحزاب وصناعة القيادات: أنصارها يقولون إن الحركة اليومية التي يبذلها عضو الحزب في دائرته من خلال الاطلاع على المشاكل العامة ومحاولة حلها، وسماع دعاوى خصومه والرد عليها، وقراءة الصحف، كل ذلك يؤدي إلى خلق شخصية قياديه قادرة على تحمل المسؤولية. هذا بالإضافة إلى ما تقدمه منابر الخطابة في مقار الأحزاب من تدريب على فصاحة اللسان وسرعة البديهة، والقدرة على جذب انتباه المواطنين.
فالأحزاب إذن كما يقول Ernest Barker، خزان اجتماعي Social reservoir لمجموعة الأفكار السياسية في منطقة من المجتمع. هذا بالإضافة إلى ما تؤديه كقناة سياسية Political Conduit، حيث تتجمع الأفكار فتنساب إلى داخل نظام الدولة، فتدير عجلة السياسة في ذلك النظام، لذا فإن الحزب يؤدي خدمة مهمة وهي تمكين المجتمع من الدخول في الدولة، وبهذا يحفظ عمل الدولة باستمرار متجاوباً مع حركة التغيير الاجتماعي.

الأحزاب السياسية عامل تشكيل للرأي العام

الديمقراطيات المعاصرة تركز اهتمامها على الرأي العام، وتسلك كافة السبل لمعرفة اتجاهاته، وذلك حتى يكون الرأي العام مظهراً حقيقياً لاشتراك جميع أفراد الشعب في الحكم، تستوي فيه الأغلبية مع الأقلية – تلاحظ أنه لما واجهت مملكة بريطانيا الانفصال في سبتمبر الماضي 2014م كانت أحزابها عاصماً لها بما حملت الناس على التصويت للوحدة. بعد أن كتم العالم أنفاسه ينتظر التصويت على أقدم اتحادات الدنيا!

الأحزاب السياسية أجهزة رقابة لأعمال الحكومة:
إن وجود أحزاب معناه وجود معارضة، ووجود معارضة دائماً يحول دون الانفراد بالرأي في تسيير دفة الحكم – قلت مرة إن الحكم بدون معارضه كالقيادة بدون مرآة! – فالحزب الحاكم حاز على تأييد أغلبية الشعب، وهذا بدوره حمله للسلطة، لاعتقاده أنه القادر على تحقيق أمانيه ومتطلباته، فإذا ما انحرف عن المصلحة العامة أو عن تنفيذ الوعود التي قطعها على نفسه لهيئة الناخبين، وجد من يرده وينتقده ليعود إلى الإطار الدستوري الذي يسير في فلكه، ليحترم الدستور أو القانون أو اللائحة التي خالفها هذا الحزب، أو الوعد الذي قطعه على نفسه للشعب في حدود إطار المشروعية.
إن وجود الأحزاب السياسية يقوم بتحديد المسؤوليات السياسية للحكومات المتعاقبة، حيث يكون كل حزب مسؤولاً مسؤولية تامة أمام الشعب، عما قام به من أعمال أثناء فترة توليه الحكم وفق برامجه المعلنة.
لماذا رفض الفيلسوف الديمقراطية؟
يقول البعض إن رفض “أفلاطون” للديمقراطية، كان يصدر عن تصور لها عنده، حيث يرى أن الديمقراطية تعني النظام الذي يقوم على حكم الأكثرية، على الحرية المطلقة، دون ضوابط أو مسؤولية، وبالتالي تحل الفوضى في النظام، والنزعة الفردية محل المصلحة العامة، لكن كل ذلك يمكن أن يتم – كما يقول المدافعون- في غياب الرقابة الشعبية للحكومة من خلال أجهزة منظمة وقادرة على كشف الأخطاء وتحديد المسؤوليات في ظل نظام حزبي حر.
الأحزاب وسيلة للتداول

دوام الأحزاب السياسية هو ضمان السياسة الهادئة على المدى الطويل، وهو أيضاً عامل تحديد مهم للمسؤولية. فقد رأينا كيف أنه إذا كان العمل الحكومي لا يطابق الوعود التي قطعت، فإن الناخبين سيعرفون كيف يعبرون عن عدم رضائهم في الانتخابات التالية. وبالتالي كانت الأحزاب بمثابة وسيلة من خلالها تبدي الجماهير عدم رضاها، فينعكس هذا الأثر على تغيير الحزب الحاكم وانتقال السلطة بطرق سلمية – أذكر أنني فزت في دائرة الصحافة لأول مرة بعشرة آلاف صوت، إلا أنني في المرة الثانية فزت ولكن بنصف هذا العدد – غير أن حزب “أردوغان” في “تركيا” كان مثالاً فقد فاز للمرة الثانية بزيادة أربعة عشر مقعداً في البرلمان. إن تعدد الأحزاب ووجود المعارضة يقدم الطريقة السليمة الكافية والقادرة على تغيير القيادات وإحلال غيرها من خلال الانتخابات العامة. وذلك ضمان كافٍ للانتقال الشرعي والسلمي للسلطة، وهي الطريق الديمقراطي إلى الحكومة والبرلمان. وهي السبيل لإنفاذ شعار التداول السلمي.
والأحزاب إذ تؤدي أدوارها السياسية هذه، فهي تستوعب كل أو معظم الاتجاهات في إطار النظام السياسي والدستوري، مما يخلق جواً من الاستقرار السياسي في كافة مؤسسات الدولة، وبالتالي فالأحزاب ليست شراً لابد منه وإنما الذي لابد منه ولا محيص عنه هو العمل على اتخاذ كل ما يستطاع من الوسائل لدرء ما يستطاع من المساوئ المعروفة للأحزاب!
استدراك على النظام الحزبي:

يقوم الانتقاد على أن الأحزاب تعمل دائماً على تقديم الصالح الحزبي على الصالح العام!
فكثير من الأحزاب تنحرف عن أداء رسالتها العامة، وتجرى وراء مصالحها الحزبية، بغض النظر عن الهدف والمبدأ العام الذي وجدت من أجله، والذي يوجب عليها أن تعمل على نشره في حدود المصلحة العامة، بل الكثير منها غلى في ذلك، حيث جعلت الحزبية معياراً لتقييم المصلحة العامة. وفي هذا إغفال لهذه المصالح التي ينبغي أن تكون الهدف الأول للأحزاب السياسية. حتى في بريطانيا – أي البلد الذي يعد مهد النظام البرلماني والنموذج الأمثل لهذا النظام – لم يتردد المحكّمون في توجيه النقد لهذه المؤسسات على اعتبار أنها تؤدي إلى فقدان الروح الوطنية من خلال جريها وراء تحقيق مصالحها الخاصة.
إن للمصالح الاقتصادية أثراً كبيراً في انحراف الحزب عن كثير من المبادئ والقيم التي يجب أن تسيطر على أنشطته. ويتم ذلك من خلال احتياجات الأحزاب للمال لإدارة أنشطتها، مما يجعلها تلجأ إلى مثل المؤسسات المالية والتجارية والصناعية. وهذا هو مكمن الخطر في الديمقراطيات الحديثة. ذلك إن هذه المؤسسات لا تقدم المساعدة إلا للأحزاب التي ترضخ لمطالبها وتتبنى الدفاع عن مصالحها، فالأحزاب لا تتوانى في التسابق على إرضاء الشركات مما يعطيها القدرة على السيطرة التامة على أجهزة الحكم من خلال الضغط عليها لتحقيق مصالحها، بغض النظر عما إذا كانت تتعارض أو لا تتعارض مع الصالح العام! وهذا يقال إنه من الأسباب التي أدت بالشعب الفرنسي إلى عدم الثقة في هذه التنظيمات. فالناخبون لا يحفلون بالأحزاب إلا قليلاً، ولا ينتظرون من المرشح البرلماني أن يكون منتسباً لأي حزب، وإنما يكتفون بمجرد العلم بالاتجاه السياسي العام للمرشح.
إنه لا شر يحيق بمدينة – كما يقول “أفلاطون” المؤمن بالصفوة – أكبر من ذلك الذي إذا نزل بها فرقها شيعاً وأحزاباً. ولا خير تنعم به مدينة أعظم من ذلك الذي إذا حل فيها ربط أجزاءها بعضها ببعض وجعل منها وحدة متماسكة.

الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري


تعليق واحد

  1. كلامك ياشيخنا متناقض في موقفك من قرارات دمار السودان ( 4 رمضان ) حيث كنت في جانب مايسمي بالقصر . يادووووووب عرفت الحق وبقيت تتكلم عن التعددية الا رحمك الله ياشيخ حسن رحمة واسعة بقدر ماقدمت لهذا البلد . اليس ماكتبته هذا كان منصوصا في دستور 98 الذ ايدتم فيه انقلاب البشير علي الدستور (الترابي ) وذلك مراعاة لمصلحتكم الشخصية فكنت انت وعلي عثمان وابو الجاز والمانافع وراس الكفر غازي صلاح الدين وغيركم من النفعيييين فلن يرحمكم التاريخ والاجيال القادمة من ذلك