رأي ومقالات

الترابي.. حياة الأفكار (8)


التفسير مفردة من فسر ومفردة فسر وسفر واحدة . ومعناها وضح وظهر بغير غطاء ولا حجاب. والتفسير هو التوضيح والشرح، وتفسير القرآن هو توضيح معناه وشرحه ليفهمه القاريء له . وأما التأويل فهو التفسير الأبعد . ويقصد به إعطاء معنى لحدث أو نص أو لفظ لا يبدو للرائى لأول وهلة . وتأويل الرؤيا هو شرح دلالات مرائيها على غير وجهها المباشر. والتأويل في الجملة بحث المعاني الأبعد وراء المعاني المباشرة ، أو فقل دلالة إنتقال معنى النص من ملابساته المباشرة إلى حال مختلف ليُرى مغزاه في تلكم الحال الجديدة. وقد توقف الدكتور الترابي أمام الكلمتين التفسير والتأويل، لأنه يرى أن تفسير القرآن كما نزل في الوقت والمحل الذي نزل بهما وإن كان ضرورياً فإنه لم يعد كافياً في زماننا ،لاختلاف الوقت والمحل . فلا بد من إكمال التفسير بالتأويل ليمكننا تعدية المعني من زمان التنزل إلى زمان الإعتبار.

التفسير التوحيدي :
تحدثنا آنفاً عن فهم الدكتور الترابي لتفسير القرآن وكيفية الإنتفاع به في زماننا وأحوالنا المعاصرة. فإنما أُنزل القرآن ليُفهم ويُنتفع به في كل محل ومقام، وكل عصر وأوان . ولا يكون ذلك إلا بإحسان منهج التدبرللقرآن الكريم . فإنما أنزل القرآن ليتدبره كل قاريء، وكل سامع ((كتابٌ أنزلناه مباركٌ ليتدبروا آياته)) . والتدبر هو النظر المتملي المتأمل المتفكر على مهل ، والناظر في عاقبة القول إن هي صارت إلى الواقع . وأهل الفلسفة يشرحون التدبر بأنه تصرف القلب بالنظر في الدلائل . ولئن كان التدبير هو التصرف الحكيم في الأمور، فيمكننا أن نقول أن التدبر هو النظر الحكيم في الأقوال لإنزالها منازلها الصحيحة. وهو نظر بالبصيرة في عواقب الأمور ومصائرها، يعصم الناظر من الوقوع في الخطأ والخطيئة. يقول الإمام الجرحاني في تعريفاته : ( التدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور ، وهو قريب من التفكر ، إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب. ) وأما أصحاب التفاسير فلم يبتعدوا كثيراً عن هذا المعنى، يقول إبن عطية (التدبر هو النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء) ويقول الزمخشري (تدبر الأمر : تأمله والنظر في أدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه) ويقول الرازي: ( التدبير والتدبر عباره عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها) ويقول الألوسي :(وأصل التدبر النظر في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه أو سوابقه أو لواحقه أو أعقابه) ويقول ابن عاشور : (يتدبرون القرآن يتأملون دلالته، وذلك يحتمل معنيين أحدهما أن يتأملوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي تدبر تفاصيله، وثانيهما أن يتأملوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنه من عند الله، وأن الذي جاء به صادق.)
أوردنا كل ما قاله أهل التفسير لنصل إلى أن رؤية الدكتور الترابي لتفسير القرآن من خلال تدبره تؤول إلى التأويل، والذي هو ما أشار إليه ابن عاشور في المعنى الأول . وذلكم هو تدبر دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين . فإنما القصد من التدبر البلوغ إلى مقصود الله سبحانه وتعالى وما يرشد الله من خلال آياته المبينات. فالتدبر هو تأمل آيات القرآن بقصد الإعتبار والتعمق في المعاني، أو كما يقول الزمخشري : (وتدبر الآيات هو التفكر فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يُدبر ظهرُها من التأويلات الصحيحة ، والمعاني الحسنة لأن من اقتنع بظاهر القول لم يُحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها” فالزمخشري يُريد القول أن القرآن درور بالمعاني فاحلبوه بالتدبر والتأمل والتفكر. وأنه ولاد للفكر فاستلدوا منه معانيه التي لا تنفد ولا تستنفذ بكثرة الرد، والدكتور الترابي يشرح فهمه للتفسير والتأويل فيقول “والتفسير هو أن يؤخذ نص القرآن في ضوء معاني اللغه التي كانت سائدة وقت التنزيل في الاستعمال العرفي العربي والإصطلاح الشرعي الأصل . ثم في ضوء الإطار الواقعي للتنزيل من أسباب تفصيله للآيات أو عموم الحياة بين الجاهلية وصدر الإسلام ، ثم في ضوء بيان الرسول صلي الله عليه وسلم في أحاديثه الخاصة وفي سيرته العامة في الحياة بالقرآن فإنما ذلك للإستئناس تعاوناً بين المسلمين عبر القرون، ومراعاة لإختلاف معاني الألفاظ وتطورها عرفاً وفقهاً ، وتبدل الواقع بما يشمل من ظروف تكييف النظر الحق إلى القرآن وأهواء تؤثر في فقهه . والتأويل هو ثمرة التجربة المعاصرة المتكاملة ، نظر عقل وانفعال عاطفة وحركة عمل حيث يتحد الوعي بالأصل والمأثور واستشعار الإلتزام بلازمه والتقدير لمقدره مع العلم والشعور بحاضر الطبيعة والاجتماع والحركة الحية في الواقع المادي ). فالتأويل لدى الترابى هو أن تحيا في الحاضر المعاش والواقع المحسوس ولكنك تستمد عبره المعاني من خلال تفسير القرآن، أي من خلال فهمه في بيئة التنزل الأول ثم التأمل لمعرفة ما يُدبر ظاهرُ تلكم المعاني من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة المناسبة للوقت والمحل الذي هو زماننا المعاصر وواقعنا المعاش.
ولأن القرآن دليل للحياة فهو حيّ نابض بالحياة ليُناسب دوره في رفد الحياة بالمعاني الحية المزدهرة التي لا تفنى ولا تنفد(يا أيها الذين آمنو استجيبوا لله ولرسوله إذا دعاكم لما يُحييكم) . ولأنه كتاب التوحيد فلا يصلح فهمه إلا في ضوء عقيدة التوحيد، التوحيد الخالص والشامل . ولذلك فإن تفسير الدكتور الترابي للقرآن تفسيرَ توحيدي وتأويله وفهمه للقرآن تأويل توحيدي . فمثلما أن أعضاء الكائن الحي لا تبقى حية لتبعضها وانفصالها من كيانها الواحد ، فإن أبعاض القرآن وأجزاءه لا تحمل ذات القدرة على إستثارة معاني الحياة وملهماتها إلا في إطارها الكلي التوحيدي . ثم أن الدكتور الترابي إنما يرى القرآن جزءاً لا يتجزأ من الكتب المنزله قبله . فإنما هو النسخة الأخيرة من كتاب الله في الأزل . ولذلك فإن كل معنى أشار إليه القرآن من تعاليم وشرائع من قبلنا فهو عند الدكتور حجة ملزمة لنا . لأن تصديق القرآن له توثيق لصحته ، وما صح من معاني الهداية في الماضي فهو صحيح في الحاضر ، إن لم يكن بشكله أو صورته التشريعية السابقة فبحكمته ومقصده ومراده . فكلمة الله سبحانه وتعالى واحدة منذ الأزل، ومراده من خلقه في شأن واحد لا يتحول ولا يتبدل . لأن كلمة الحق لا تتغير ولا تتبدل، والخير والبر والعدل خالد لا يتغير ولا يتبدل.
ومثلما يرى الدكتور الترابي القرآن موحداً فهو يأبى تقسيمات المفسرين والفقهاء للقرآن ، آيات أحكام وآيات تعاليم . فالقرآن واحدٌ وأحكامُه توضح للناس وجه الحق بالبيان وبالعمل، وتعاليمه تهدي أعمالهم لوجه الحق الذي لا يتحول ولا يتبدل . والترابي يرى أن الإفراط في إستخدام هذا التقسيم الذي أُريد لأول وهلة لغرض التعليم يُوشك أن يغفل عن وحدة الخطاب القرآني . ” حيث جاءت آيات الإحكام مكتنفة بالمواعظ والتقريرات العقدية . وركب في السياق القرآني الموضوع المضمون الذي يخاطب الحياة الإنسانية الموحدة التي لا مجال فيها لفصول مبوبة مجزأة من السلوك”.
بل أن الترابي يرى في آيات الأخبار والمواعظ ( مصدر خصيب لاستنباط الإحكم وقد نجد فيها نحن في عصر الإعتبار أكثر مما وجد بعض سلفنا الفقهي، لأننا أحوج في الاستنباط البعيد لتمثل نموذج الحياة الإسلامية الكامل الذي تحقق أصلاً.)
والقرآن كتاب الحياة التي أراد الله للإنسان أن يحياها . فالحياة الطيبة التي تجعل الإنسان سعيداً إنما تحصل بالتناغم بين الإنسان ونفسه ، والإنسان ومجتمعه ، والإنسان وبيئته . ولن يحصل ذلك إلا إذا كانت معرفته مصدرها من عليم خبير بالأنفس وسنن المجتمعات وسنن الطبائع والأكوان . ولئن كان بعض الناس يرضى لنفسه ولمجتمعه ولحضارته حياة بهيمية هي حياة التكاثر من الشهوات والإستجابة للغرائز، فليست تلكم هي الحياة الطيبة التي تسعد بها روح الإنسان . فالله خلق الروح متعالية لا تسعد إلا بالسمو . ولا يتحقق السمو إلا بوضع الأمور مواضعها من الحق. وفعل ذلك أي وضع الأمور في نصابها الحقيقي ، هو الخير، وثمرة ذلك هو الإنسجام والإتساق الذي هو عين الحسن والجمال . ونحن من تجاربنا في الحياة نعلم أن الحياة لا تتبعض فهي نسيج واحد متكامل متفاعل إذا اشتكى منه عضو تجاوب معه سائر الجسد بالسهر والحمى . والله سبحانه وتعالى يريد للمجتمع الصالح أن يكون كذلك وللأمة الشاهدة أن تكون كذلك.
ولن يتحقق ذلك إلا بالتحقق بمعاني القرآن فهي هادية الإنسان لمعرفة ربه مالك الملك الممسك بأزمة الأمور كلها ومقاليدها . وهو العليم الذي لا تخفى عليه خافية في أقطار الأرض أو في خبايا النفوس . وهو المتصرف في الأكوان فلا يكون شيء إلا بأمره أو إذنه . ولا تسقط ورقة ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا بعلمه . وهوصاحب الإسم الأعظم الذي يتجلى في الحق مبيناً ظاهراً واضحا . وهو الرب الأعظم المتولي أمور عباده جميعا جلها ودقها . وهو صاحب الأسماء الحسنى والصفات الأسنى التي تجذبنا نحو السمو فلا نزال في ترقي مستدام ولا وصول، وكيف يكون وصول إلى حيث لا حيث. وإذا عرف الإنسان ربه عرف نفسه ،فإذا ذكر الإنسان ربه ذكر نفسه وإذا نسيه نسى نفسه (نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) فما من حاجب للحق مثل تضخم الذات الإنسانية فإذا تضخمت ذات الإنسان لم ير غيره وإن لم ير الأغيار فكيف يميز نفسه ويعرفها حق معرفتها . ومعرفة الإنسان لعبادة الله ترده إلى مكانه الحق بين الناس ومقامه الصحيح في الأكوان . والقرآن هو الدليل لمعرفة الله ومخلوقاته وسننه في ما خلق وصنع . وبمعرفة طبائع الأكوان يتعرف الإنسان كيف يمكن له أن يضاعف من خيراتها ، ويكثر من ثمراتها . فهي مسخره له بما علم من سننها وبما أحسن عمل فى تسخير تلكم السنن لتوافق مرادات الحق والخير والجمال. فالقرآن هو دليل الخالق على الأكوان ، ظواهرها ومظاهرها ،سننها وطبائعها ” إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” (البقرة 164) فمخلوقات الله وسننه دالة على الخالق الذي خلقها وهى في انسجامها واتساقها دالة على وحدانية الخالق . وهي من بعد دلالتها على وحدانية فعل الخالق دالة على صفاته التي كلها صفات حق وخير وجمال . والعين التي تبصر بذلك في الطبيعة المجبولة لا تغفل عن رؤية معانيها في حكمة الخالق المدبر ” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” . فالقرآن هو كتاب الله المسطور لمعرفة آيات الله المبسوطة في الطبائع وفي الأنفس والآفاق . ولكن كثير من الناس يغفلون عن ذلك لأنهم لا يتفكرون ليولدوا المعاني المتكاثرة ولا يتدبرون ليروا معقبات الأعمال الصالحة . ويكتفون بالقراءة الصوتية للقرآن ، ويغفلون عن حقيقة أنه أنما أنزل القرآن لتحسين الحياة . وإنما أنزل للعمل به لتحقيق النمو بالحياة والإرتقاء بها إلى أعلى عليين . ولا ينال كمال ذلك إلا في الجنة ولكن واقع الحال بين الناس كما قال سيدي الحسن البصري “أنزل القرآن للعمل به فجعلوا تلاوته عملاً” وما ذلكم بحق التلاوة وأيم الله ،أنما حق التلاوة أن يتلوها العمل الصالح الذى ينتفع به الناس وتنصلح به أحوال الطبائع والأكوان.

ونواصل

د. أمين حسن عمر