مقالات متنوعة

احمد يوسف التاي : بلا ذاكرة


لا أدري على وجه الدقة، أهي درجة من التسامح وسلامة الدواخل، أم أنها درجة من التساهل والتهاون أم أنها حالة مرضية أشبه بفقدان الذاكرة “الزهايمر” تلك التي تتلبس المسرح السياسي السوداني وإلا كيف يمكن لعقولنا أن تستوعب شخصا يعارض الحكومة اليوم بكل ضراوة وشراسة حتى نظن أن الذي بينه وبينها ما صنع الحداد ولا تلبث إلا قليلاً حتى ترى ذلك المعارض الشرس، والمناضل الذي ملأ الدنيا زئيرا وفجورا في الخصومة مسؤولاً دستوريا رفيعا وقد أصبح ملكيا أكثر من الملك..
هذه حالة أدركنا أنها لا تعرف التدرج، سريعة الانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أدنى السفح إلى أعلى القمة دون أن تكون هناك محطة انتقالية.. حالة تصنع المفاجآت ولا تهدأ، وتكرر نفسها دون توقف، والساحة السياسية التي تعيش بلا ذاكرة تستوعب كل هذه التناقضات بكل يسر، وقد لا يجد المرء حرجاً في الانتقال المفاجيء من قاتل يدمر الممتلكات العامة ويقود عمليات التخريب للمنشآت القومية إلى مسؤول كبير في القصر الرئاسي يحدثك عن ضرورة المحافظة على ممتلكات وثروات الشعب السوداني وعن القيم والأخلاق ويجبرك على أن تنسى أنه قد أتى بالأمس القريب عما نهاك عنه اليوم، أو أنه فعل ذلك لأن له قضية عادلة، وسبب التمادي في هذا الفجور هو ضعف ذاكرة السياسة السودانية ..
مبارك الفاضل الذي تردد بقوة أنه ساعد الأمريكان على ضرب مصنع الشفاء ساعده ضعف الذاكرة السياسية على الانتقال السلس من شخص متعاون مع الأجانب لضرب منشآت وطنية كما تردد إلى مساعد رئيس الجمهورية.. وأركو مناوي ساعدته نفس الذاكرة السياسية الخربة على الانتقال من قائد أكبر عملية تخريب بمطار الفاشر إلى كبير مساعدي رئيس الجمهورية ..
وضعف الذاكرة السياسية نفسه جعل بعض قادة الجبهة الوطنية السابقين، الحاكمين الآن والذين غزوا بلادهم بدعم أجنبي في العام 76 جعلهم ضعف ذاكرة السياسة السودانية يقررون أن أي معارض بالخارج هو عميل وخائن، نعم لمجرد وجوده بالخارج فقط، ولا يتذكرون أنهم تلقوا أموالاً دعماً عسكرياً أجنبيا لغزو بلادهم، يفعلون ذلك لأنهم يدركون تماما أن الساحة السياسية تعيش بلا ذاكرة ..
وضعف الذاكرة السياسية نفسه جعلنا لا نندهش لانتقال المرحوم الدكتور خليل إبراهيم من أعظم قائد لكتائب الدفاع الشعبي في مواجهة تمرد الجنوبيين إلى قائد للمتمردين بعد المفاصلة بين الاسلاميين، وضعف الذاكرة نفسه هو من ساعد شقيقه الدكتور جبريل إبراهيم على الانتقال من منسق للدفاع الشعبي إلى رئيس للجبهة الثورية حاليا.
وضعف الذاكرة السياسية نفسه هو ما جعل الشيوعيين الذين أبادوا الأنصار في الجزيرة أبا وود نوباوي يتحالفون الآن مع حزب الأمة والأنصار لاستعادة الديمقراطية بعد إسقاط النظام الحالي، لذلك أعيد السؤال الذي طرحته في البداية.. هل هي درجة عالية من التسامح، أم درجة أعلى من التساهل،أم أنها حالة مرضية مرتبطة بفقدان الذاكرة السياسية..
والشيء نفسه ينطبق على الكثيرين الذين ملأوا الدنيا زئيرا كان يزعج الحكومة، وما إن استوعبتهم الوزارة حتى تحول الزئير إلى “شقشقة” عصافير تطرب لها الحكومة، يحدث كل ذلك لأن الذين يجرأون على مثل هذه الأفعال المخجلة يعرفون أن السياسة السودانية تعيش بلا ذاكرة ولن يعاتب أحد أحداً ولا يلومن أحد أحدا.. والذي سيخرج من الحكومة مغاضبا اليوم سيجد في نضال الأسافير مراغما كثيرا وسعة ويمكنه أن يركب موجة الحريات التي كان يشارك في ذبحها وسيجد الساحة السياسية ترقص له طربا وهي حاسرة الرأس، وتستقبله استقبال الفاتحين وليس “الانتهازيين”.. صحيح أنها ذرية بعضها من بعض.. اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.