تحقيقات وتقارير

“تمزيق عريضة” من يهتم أكثر بزيارة البشير إلى كمبالا؟ بالتأكيد جوبا.. لكن النتائج تعتمد على تقارير الفرق الاستخباراتية


على مدار ثلاثة عقود كان الجنوب ولا يزال مؤشرا للعداوة أو محاولات تسويتها بين الخرطوم وغريمتها كمبالا، وبالطبع كانت علاقة الجارتين السابقتين مؤشرا لما يعانيه أو ينعم به الجنوب الذي يهتم اليوم أكثر من غيره بزيارة الرئيس البشير الاستثنائية إلى يوغندا كما فعل عندما زار الرئيس موسفيني بشكل استثنائي أيضا الخرطوم في سبتمبر الماضي.
منذ إعلان الإنقاذ عن سلطتها في 1989 فإن الخرطوم وكمبالا لا تأخذ إحداهما الأخرى إلا بالشدة والحلول الأمنية التي جرتهما إلى حرب بالوكالة في خضم واحدة من أطول وأشرس الحروب الأهلية في أفريقيا.

كانت الخرطوم تتهم كمبالا بدعم الحركة الشعبية إبان الحرب الأهلية في الجنوب وبعد انفصاله درجت على اتهامها بأن لها أطماعا توسعية في الدولة الوليدة وتريد أن تنسف علاقتها مع الدولة الأم حتى تتمدد بديلة لها في سوقها البكر.
وفيما تمتد اتهامات الخرطوم لتشمل دعم كمبالا وجوبا معا للجبهة الثورية فإن موسفيني لم يألو جهدا لتأليب المجتمع الدولي على السودان بحجة دعمه لجيش الرب الذي تصنفه واشنطن كمنظمة (إرهابية) وتلاحق المحكمة الجنائية الدولية زعيمه جوزيف كوني.

وبدورها لم تدخر الخرطوم جهدا لمحاصرة موسفيني إقليميا بحجة دعمه للمتمردين عليها، ففي فبراير 2013 نجحت في إقناع منظمة دول التعاون الإسلامي بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول اتهاماتها ليوغندا الدولة العضو في المنظمة لكن النتيجة لم تكن بأفضل حالا مما آلت إليه شكوى مشابهة إلى منظمة البحيرات العظمى خلال قمتها في أغسطس من ذات العام حيث لم تنته كلتا الشكوتين إلى ما ترومه الخرطوم من إدانة صريحة ليوغندا رغم تصنيف منظمة البحيرات لحركات دارفور في قمتها السابقة بأنها حركات (سالبة).
وزادت حدة التوتر أو قل التنافس بين البلدين باندلاع النزاع المسلح بين سلفاكير ميارديت ورياك مشار في ديسمبر 2013 حيث حظي الأول بشكل فوري بدعم عسكري كبير من موسفيني الذي أرسل قوات من جيشه لمساندته مدعومة بطائرات من سلاح الجو اليوغندي.

بالنسبة لموسفيني فإن مشار لم يكن سوى حليف لخصميه (الخرطوم وجيش الرب معا) ويهدد مصالحه في حال وصوله للسلطة وبالمقابل لم تخف الخرطوم التي تنشط ضمن فريق إيقاد لتسوية النزاع الجنوبي، امتعاضها من التدخل العسكري اليوغندي في الجنوب بوصفه يغوض مساعي السلام.
ورغم سعي سلفاكير لتحسين علاقته مع الخرطوم عقب اندلاع النزاع بتأكيد التزامه تنفيذ الاتفاقيات المبرمة بينهما وأهمها الاتفاق الأمني الذي يمنع أيا منهما من دعم المتمردين على الآخر بسبب مخاوفه من دعم السودان لحليفها القديم مشار إلا أن ذلك لم ينسحب على تحسن موازٍ في العلاقة مع كمبالا التي تعتبر وفقا للرواية الرسمية حاضنة للحركات المسلحة وربما بإيعاز من جوبا نفسها لتفادي الحرج مع جارتها الشمالية.
وتجلى الخصام بين السودان ويوغندا عندما استدعت الخارجية القائم بالأعمال اليوغندي في نوفمبر 2014 احتجاجا على اتهام موسفيني للخرطوم خلال لقائه مسؤولين من جنوب السودان بأنها: “تحتفل بالقتال الدائر في جنوب السودان وترغب في نهب ثروته”.

لكن شيئا فشيئا وضمن متغيرات إقليمية ظهرت بوادر انفراج عندما زار نائب الرئيس حسبو عبد الرحمن كمبالا في فبراير من العام الماضي على رأس وفد طغى عليه قادة أمنيون وأعلن بعده اتفاق الطرفين على تشكيل آلية فنية لبحث القضايا الأمنية والعسكرية لكن دون الكشف عن تفاصيل حول آليات عملها.
لكن الأهم في تلك الزيارة هو ما أعلنه وقتها وزير الدولة بالخارجية عبيد الله محمد الذي كان ضمن الوفد السوداني، من أن كمبالا طردت عناصر تابعة للحركات المسلحة من أراضيها قبيل الزيارة مبديا أمل حكومته في طرد البقية.

وبعدها كان انفتاح البلدين على بعضهما جليا في زيارة موسفيني للخرطوم في سبتمبر الماضي والتي يمكن النظر لها كنتاج لزيارة حسبو إلى كمبالا لكن يجدر أيضا ربطها بزيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لأديس أبابا في يوليو الماضي واجتماعه بزعماء الدول المجاورة لجنوب السودان وطلبه منهم – ربما بصيغة الأمر – التعاون لتسوية النزاع الجنوبي.

بعد زيارة الرئيس اليوغندي الخرطوم التي كانت في الشهر التالي لاتفاق السلام بين سلفا ومشار ورغم تعثر تنفيذ هذه الاتفاقية حتى الشهر الماضي إلا أن الزيارة جعلت – نظريا على الأقل – من الجنوب وللمرة الأولى مسرحا للتعاون بين الجارتين السابقتين وليس التنافس الذي طالما أخذ أبعادا عسكرية.
والحال كذلك، تأتي زيارة البشير إلى كمبالا اليوم والتي تعني أيضا أن موسفيني مزق عريضة الجنائية التي لوح بها أكثر من مرة في خضم خصامه مع الخرطوم، لكن التحقق من تسوية الطرفين لنزاعهما عن قناعة وجد لتتحقق منفعتهما ومنفعة الجنوب، يحتاج لأشهر تقضيها الفرق الاستخباراتية في تتبع حركة المجموعات المتمردة في كلا البلدين.

الخرطوم – محمد الخاتم
صحيفة اليوم التالي