عبد الباقي الظافر

معسكر «الله كريم»..!!


أخرج الشاب حامد من الجيب السري الذي يرقد تحت الجلباب المال..أمسك بمبلغ (المليونين) كأنه يخاف أن يتخطفه الطير..حاول أن يجادل السمسار في ثمن الرحلة إلى مدينة الكفرة الليبية..بدأ يسرد قصته أمام مهندس الرحلة وسائق العربة (تاتشر)..أخبرهما أنه مزارع بائس زرع القطن وحصد الندم..البذور المحسنة كانت فاسدة..المصرف الزراعي يطارده..يريد أن يسافر إلى ليبيا حتى يتفادى السجن..الرواسي لم يمنح الفلاح المسكين فرصة إكمال (عرضحاله ) وأخبره أنه مجرد سواق..كان حامد الرجل الأخير في كشف الرحلة إلى المجهول..
في الموعد تسلل الجميع من مسجد دنقلا العتيق نحو عربة الدفع الرباعي اليابانية..تشاءم حامد عندما وجد أن عدد الركاب (13)..همس في أذن الرواسي عن سبب السماح لسيدتين بالسفر عبر هذه المخاطرة..بصوت جهور أفشى الرواسي السر..هذه الشابة تبحث عن زوجها الذي خرج إلى ليبيا قبل عشرة سنوات..ثم واصل وهذه أمها لم تشاء أن تتركها وحدها في هذه المهمة الصعبة..فكر حامد أن يتنازل عن المقعد الأمامي للحاجة الكبيرة..شح النفس جعله يتذكر الوصية..فضل الله أوصاه أن يحتفظ ببعض الماء ويركب في مقعد أمامي..أقنع نفسه من الأفضل أن تكون الشابة في رفقة أمينة مع أمها في الصندوق الخلفي.
ولجت العربة إلى جوف الصحراء..في هذا المكان تفقد الحياة ميزة التنوع..رمال ممتدة على مد البصر..الشمس بدأت ترسل أشعتها اللاهبة..بدأ حامد التمعن في ملامح جاره الصامت..يبدو أنه من دارفور..عمره فوق الخمسين بقليل..لم يكن متحمساً للحديث..الرواسي ويده على المقود كان يطلق بعض النكات ويسرد بطولاته على الطريق..حكى لحامد أنه ظل في هذا الطريق عشر سنوات..من قبل ذلك عمل بالتهريب في شرق السودان..وأنه نجا من الموت ذات مرة جنوب شلاتين..استذكار الموت جعل حامد يتذكر مسبحته ويتحسس جالون الماء الذي وضعه داخل حقيبته السوداء.
بعد مسيرة يوم ونصف فجأة اندلعت عاصفة هوجاء..أحمد آدم اضطر أن يخرج عن صمته..وجه سائق السيارة بالتوقف ريثما تصفو الأجواء ..الرواسي ابتسم وأخبر ضيفيه أن هذه عاصفة صغيرة ومن الأفضل مواصلة السير في مثل هذه الظروف ..حامد لم يكن له ما يقدمه..هذه المرة الأولى التى يسافر فيها إلى خارج السودان..حتى الولاية الشمالية لم يكن قد زارها من قبل.
بعد قليل تمكنت السيارة القوية من قهر العاصفة..محمد آدم أفصح أنه سلك هذا الطريق أكثر من مرة..سأل الرواسي عن نقطة (الله كريم) التي تتمركز فيها آخر ملامح السيادة السودانية..تلعثم الرواسي..أيقن الرجل أن السيارة تاهت في مجاهيل الصحراء..الرواسي أصر على مواصلة الرحلة..بدأ الوقود ينفد..الزاد من الماء والطعام لم يعد كافيا.
ركاب مؤخرة السيارة طرقوا بعنف على كابينة القيادة..توقف الرواسي نزل إلى المحتجين..سألهم للمرة الأولى عن رأيهم..اختلف الناس..فريق طالب بالعودة وآخر طالب بمواصلة المشوار..حامد خرج على النأس برأي ..من الأفضل ان نتوقف وفي السيارة بعض الوقود والماء والطعام.
بدأ الفلاح الشاب يمسك بدفة القيادة في الظرف الصعب..طلب وضع المؤن تحت قيادة مركزية..بدأ بجالون الماء الذي يحتفظ به..وجه الجميع أن يتوجهوا إلى الله بقلب سليم ويكتبوا وصاياهم.
في اليوم الثالث من الأزمة ..تمدد الناس في انتظار الموت ..في جوف الليل أشعل حامد النار في إطار العربة..ثم أخرج أحد أوعية الوقود الفارغة وجعلها تشتعل..الشعلة أضاءت المكان حتى الفجر.
عند السابعة صباحاً كانت مروحية عسكرية صغيرة تطوف حول العربة التائهة..الجيش في معسكر (الله كريم) أرسل برقية لقيادته تخبرهم عن السيارة التي ضاعت جنوب المعسكر..الموتى بعثهم الله أحياء..الأمل جعلهم يحتضنون المزارع الفقيرالذي أحسن قيادتهم وقت المحنة.