مزمل ابو القاسم

الجميل يفوتنا هسه.. ونبقى مشتاقين برضنا


* كنت صحافياً صغير السن، خامل الذكر، غض الإهاب، قليل التجربة، أتلمس بداياتي في بلاط صاحبة الجلالة، عندما أتاني أحد الزملاء ليخطرني بأن الأستاذ حسين خوجلي يرغب في مقابلتي.
* كان الطلب مفرحاً وصادماً في الوقت نفسه، مفرح لأن حسين عرفني، وطلب مقابلتي، وكانت (ألوان) وقتها تتربع على قمة الصحف السياسية، توزيعاً وتأثيراً، وكان صاحبها كالعهد به في كل الأزمان، صحافياً ملء السمع والبصر، يحرك الساكن، ويصنع الأحداث، وكان متفرغاً للصحيفة، قبل أن تتشعب اهتماماته، وتتعدد استثماراته، وتتوزع أوقاته ما بين الفضائيات والإذاعات وشركات الإنتاج الفني وتقديم البرامج التلفزيونية.
* ذهبت لمقابلته في مكتبه بعمارة الفيحاء وأنا متعثر الخطوات، أتصبب عرقاً، فامتدح كتاباتي، وطلب مني أن أطلِّق الصحافة الرياضية، وأتفرغ للعمل كصحافي سياسي في (ألوان)، وأكتب مقالاً سياسياً راتباً فيها.
* اعتذرت وقلت له إنني أحب الرياضة، وأجد نفسي في الصحافة الرياضية، فلم يقنط، وعرض عليَّ أن أكتب صفحة منوعات أسبوعية، صباح كل أحد في صحيفة (الناس والحياة)، التي أصدرها حسين في منتصف التسعينيات، وأطلق عليها لقب (تفاحة الصحافة السودانية)، وأسند رئاسة تحريرها للأستاذ الصحافي والشاعر المرهف سعد الدين إبراهيم، فوافقت من فوري وانقلبت إلى أهلي جذلاً، تكاد قامتي تطاول السماء زهواً.
* كان الأجر زهيداً، لكن التجربة استهوتني، واهتمام حسين خوجلي زاد ثقتي في نفسي، فتوكلت على الله وبدأت الكتابة، واهتممت بصفحةٍ جمعت منوعات سياسية ورياضية وفنية وثقافية.
* كتبت فيها مقالاً رياضي الطابع، بعنوان (صهاينة ورشاشات)، تطرقت فيه إلى المداعبات التي تحدث بين مشجعي العملاقين، وذكرت أن أنصار الهلال يطلقون على المريخاب لقب (صهاينة)، ومحبي المريخ يطلقون على الهلالاب مسمى (رشاشات)، وحاولت تحديد مسببات التسميتين، فوقعت في المحظور.
* أثار المقال حفيظة الأهلة، فتدافعوا نحو مكاتب الصحيفة، وعيون بعضهم تتطاير بالشرر، وهددوا سعد الدين بالويل والثبور، ورفع دعوى قضائية ضد الصحيفة.
* انزعج سعد، واتصل بحسين مستنكراً ترشيحه لي، ونقل له (البلوة) التي أوقعت الصحيفة فيها، وكانت المفاجأة أن الناشر أبدى سعادته بتلك الضجة، وقال لسعد: (الجريدة الما بشتكوها دي ذاتها ما جريدة).
* كانت تلك بدايات علاقتي مع سعد الدين إبراهيم، الذي ظل يردد تلك القصة كلما رآني، مثلما فعل في آخر لقاء جمعني به في نادي الشرطة، عشية دعوة قدمها والي الجزيرة للإعلاميين، لحضور حفل تدشين بعض مشاريع التنمية في الولاية.
* تمددت العلاقة، وتوثقت عراها، وظللت أطلب من سعد الدين أن يردد على مسامعي قصيدة (العزيزة)، التي حولها الصديق الحبيب الطيب مدثر إلى لوحة غنائية بديعة، بصوته الشجي، وحنجرته الطروبة، وأسأله، أي خيال جامح ذاك الذي انتابه عندما كتب (الأصيلة زي الشعاع. تدخل رواكيبنا وأرضنا.. الجميلة تفوتنا هسه ونبقى مشتاقين برضنا).
* رحل سعد خلسةً، توارى وترك لنا الحزن والأسى والكلمة الجميلة والنظم المرهف واللحن الطروب.. (اللهم تقبله في عليين، وأسبل على قبره شآبيب رحمتك، واحشره في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا).
* (إنا لله وإنا إليه راجعون).