رأي ومقالاتمقالات متنوعة

الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري : فقه المشاركة السياسية ومستقبل الحكم في السودان


الجزء الثالث (الأخير)

التعددية الحزبية – رؤية تأصيلية

عيب الأحزاب الكبيرة:
هناك عوامل مختلفة قد تزيد من سيطرة القلة على الأحزاب، أهمها اتساع نطاق دائرة الحزب، ونوعية الكثرة المحكومة. فكلما زاد اتساع نطاق الحزب وكثر أعضاؤه، كلما سهل الأمر لتحكم القلة بالكثرة المحكومة، نظراً لعدم وجود روابط قوية بين الأعضاء تجعلهم قادرين على تكوين رقابة صارمة وفعالة على هذه القلة المسيطرة !
هذا بالإضافة إلى العبارة الشهيرة التي قالها أحد النواب الانجليز تعبيراً عن الولاء الحزبي الضيق: (لقد استمعت في مجلس العموم إلى خطب عظيمة غيرت من رأيي ولكنها لم تغير مطلقاً من صوتي)، وهو تقويم سالب للنظام الحزبي حيث لا يتبع الرأي القناعة !
قد تؤدي الأحزاب إلى ضعف وعدم استقرار الإدارة المدنية
تتعرض الإدارة في دولة الأحزاب إلى تغييرات مستمرة تبعاً لتغيير الحزب الحاكم في الدولة، فحيث يفوز أحد الأحزاب في الانتخابات فإنه يقوم بملء الوظائف الإدارية على الأقل العليا منها من مؤيديه خلال الحملة الانتخابية، وذلك ضماناً لتنفيذ سياساته من ناحية، ومكافأة لكل من ساهم في فوزه من ناحية أخرى، وهو ما عرف أخيراً في الخدمة بسياسة التمكين!
التعدد الحزبي والأنظمة السياسية المعاصرة
المعنى العام للتعدد الحزبي هو الحرية الحزبية – حرية التكوين – بمعنى أن يعطى أي تجمع – ولو بشروط معينة – الحق في التعبير عن نفسه ومخاطبة الرأي العام بصورة مباشرة، على ضوء التناقضات التي يحتويها كل مجتمع من المجتمعات السياسية، ليتم من خلاله الوصول إلى خير الأطر التي تسمح بسيادة مفهوم التنافس السياسي، من أجل الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها.
أما المعنى الخاص لنظام الأحزاب المتعددة، فهو الذي يشير إلى وجود أحزاب كبيرة، كل منها قادر على المنافسة السياسية والتأثير على الرأي العام من خلال تنظيم ثابت ودائم يكسبها قوة واستقراراً، ويميزها عن غيرها من الدول غير الثابتة دستورياً .
ومن التقويم أن الثنائية الحزبية معتدلة في نقدها لأنها ستحكم، بخلاف المتعددة فهي غير مسؤولة لضعفها عن المنافسة، ولأجل ذلك نجد الاستقرار ملازماً للنظم الثنائية كما في أمريكا وبريطانيا وإيران ولا أقول إسرائيل! لأن الله قضى بشقاقهم ﴿تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى﴾.

تقويم أحزاب السودان
يقولون إن الديمقراطي والجمهوري في أمريكا بلا مبادئ فبلا صراع عنيف، بينما المحافظون والعمال في بريطانيا بينهما مبادئ تختلف في الملكية والدخل والإنتاج فبينهما صراع ! فإذا كان هذا هو حال الأحزاب المبدئية في البلاد التي اختارت العلمانية فلم يبق لها من الخلاف العقدي إلا في أشكال الاقتصاد، فإن الخلاف في أحزابنا أعمق، لأن أحزابنا أغلبها قامت على العقائد لا البرامج، فالأحزاب الثلاثة الكبرى في السودان انطلقت من المبادئ الدينية: الأمة الاتحادي والإخوان، يناهضها من الجهة الأخرى اليسار متمثلاً في الشيوعي والبعث، أما النوع الثالث فهي المجموعات الجهوية كما هي أحزاب الجنوب التي فصلته، وحركات دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة التي ما تزال تقاتل بحثاً عن الهوية والكيان.
فالأساس المبدئي بحثاً عن الهوية جعل الصراع الحزبي في السودان عميقاً وطويلاً، من نظام ليبرالي محايد تجاه الدين إلى علمانية مناهضة للدين ثم اشتراكية مثالها التأميم والمصادرة، فالي قوانين الشريعة التي حظرت الخمر والبغاء وعاقبت على الجنايات وحرمت الربا. وفي أشكال الحكم تأرجح الحال من شمولية تعتمد الحزب الواحد إلى نظام التوالي وتسجيل الأحزاب، ثم إلى التعددية الحزبية حيث وجد آخرها حزب الإصلاح الإسلامي نفسه في الرقم (71) !!
مآل الحوار:
أقول إذا شكل الحوار المدار الآن بين الأحزاب أملاً في الاستقرار فإنه سيبلغ مداه ذلك إذا تم التوافق على الثوابت، الوطنية والدينية والإنسانية وأقر مبدأ التداول السلمي للسلطةُ عن طريق النظام النيابي، حيث تشكل الأحزاب الكبيرة الكتل البرلمانية المتنافسة برامجياً، من غير سعي لانقلاب على الإجماع الوطني، فالتداول سنة كونية قبل أن يكون خطة سياسية كما يقرر القرآن ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ آل عمران (140).
﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ﴾ البقرة 251 فساد الدنيا، وفساد الدين أيضاً: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾ الحج (40)، مما يدعو الأحزاب ذات المنطلق العقدي أن تكون أول المؤمنين بالمداولة كما قرر الأوربيون قديماً في حوارهم مع العرب، حين بين لهم زعيمهم “أبو سفيان”أن الحرب بينهم وبين النبي سجال! فقال “هرقل”: (كذلك الرسل يدالون ويدال عليهم). فإذا كان هذا حال الرسل فلماذا يعلن البعض أنه لن يسلمها إلا لعيسى الرسول! الناس ينتظرون الحوار أن يكون عميقاً وحقيقاً لينتها إلى صيغة توافقية تفلح فيما عجزت عنه الجمعيات التأسيسية من تأسيس. من عجب أن شيخي وأستاذي كان عضواً في الجمعية التأسيسية وأنا كنت ناخبه أصبحت بعد عضواً بالجمعية التأسيسية! ورحم الله “الكاروري” الكبير.

الخلاصة
هي أن الحكم يحتاج الحكمة ليعدل وليستقر، والتجربة الإنسانية أثبتت أن شعار التداول السلمي المنشود يمكن تحقيقه عن طريق النظام النيابي الذي يدرب كوادره ويكتب برامجه استعداداً للعبة السياسية! وأن المنافسة هي التي تصنع القيادة وتتيح المراقبة، وتوفر ما يتداول على الألسنة اليوم من كلمة الشفافية.
أصول الدين وتاريخ ممالكه منذ ملك “داوود” ثم دولة المدينة تقول إنه كما عرف الحكم الغلبة عرف أيضاً الاختيار كمثال “طالوت”، وأن ما نجم من قتال في الصدر الأول كان من هذا الباب وانتهى بالصلح الذي هو تسليم لحكم الأغلبية وليس بالضرورة هو الأولى! كما عبر “الحسن” رضي الله عنه في خطبة الصلح (إن هذا الأمر الذي اختلف أنا و”معاوية” فيه‏:‏ إما أن يكون أحق به مني، وإما أن يكون حقي تركته لله عز وجل، ولإصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائكم، ثم التفت إلى “معاوية” وقال: (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين). ‏
كما أن دولة المدينة وهي النموذج كانت مثالاً للتعددية، حتى أن زعيم المنافقين فيها وجد حصانة لا يجدها زعيم المعارضة في الديمقراطية المعاصرة! فحين تكون حرب لا يسمح في الإعلام بمثل القول: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن منها الأعز الأذل)، كما أنه حين انشق بثلث الجيش في أخطر المعارك لم يحاكم ميدانياً!
ونذكر في الديمقراطية قول “تاتشر” المسكت للمعارضة في حرب الفولك لاند! حيث الشعار: (لا صوت فوق صوت المعركة)!
أما الصف والمثال المؤمن في دولة التأسيس فيكفي أننا جعلنا ما دار بين الصحابة في الثقيفة في أخطر يوم – يوم الوفاة – للمؤسس صلى الله عليه وسلم هو النموذج لتبادل الرأي (منا أمير ومنكم أمير)، ثم الاستقرار على التسليم للأغلبية وليس بالضرورة بنظام عد الأصوات، ولكن ببيعة العامة بعد اتفاق النخبة!
إن النظام السياسي الإسلامي يحاكم في التاريخ على أنه لم يقنن للشورى التي هي مبدأه، فإذا كانت الحكمة هي ضالتنا فلماذا لا نستعيرها بل ونقننها حتى نجعل النظام الانتخابي والنيابي جزءاً أصيلاً من نظام الإسلام لتطبيق الأمر الرباني: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ الشورى (38)، فعلماء الأصول يوجبون الوسيلة كالغاية بالقاعدة الجليلة: (ما لا يتم الواجب الابه فهو واجب)
وإقليمياً أقول هل من سبيل لتجاوز القطرية التي انتهينا إليها بسايكسبيكو، إلا بتوافق وتراض بجمع الدويلات الإسلامية في شكل من الاتحاد السياسي يعيد للإسلام دولته التي فقدها منذ نهاية دولة بني عثمان 1925، وإلا فسيفعلها داعش باتخاذها قميص “عثمان” تكريساً لما اتهمنا به من أن ملكنا لا يكون إلا غلبة! ولا صيغة غير ذلك – فلتستجب الحكومات للربيع الذي هو مطلب شعوبنا للحرية، وْلتتشكل عليها دولته من جديد، على الشورى لا على أسنة الرماح، هذا أو التطرف الذي نتداعى للأسف مع العدو لمحاربته! متناسين الاصطفاف الذي دعا له كتابنا: ﴿ قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾.
أخيراً يبدو بعد الصراع المتطاول أن العلمانيين قد سلموا بأنه ما من سبيل لإقصاء الدين عن الدولة، كما أن الإسلاميين سلموا بنسبه بأنه ما من سبيل لإقصاء الآخر. إذن فحل الجدلية يقول بالبقاء لنا وللآخر وهذا يوافق سنة التداول التي يقررها الواقع ويقول بها الوحي ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ آل عمران (140)، فإذا استقرت هذه المداولة كعقيدة سياسية للجميع إذن فلن نضل ولن نشقى بالاختلاف، وعليه فإن قراءة الورقة ليست بتقرير التداول تجريداً، بل نقول بواقعيته ولزوميته، والله غالب.
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.


تعليق واحد

  1. كما قلت لك من قبل اليس كل هذا متوافر في دستور 98 الذي انقلبتم عليه ( الدستور الشهير بدستور الترابي )
    والجميع يعلم بان الترابي حتي مماته كان يدعو لبسط السلطة والحريه للجميع وكما تعلمون جيدا هذا مااتفقتم عليه جميعكم كحركة اسلامية منذ عقود مضت الا انكم كما يعلم الجميع بيعتو شيخكم من اجل مصالحكم الشخصية .
    اخيرا نسال الله أن يعجل ويولي علينا من يصلح امرنا والحمدلله القائل ( وان تتولو يستبدل الله قوا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )