مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : من معالم منهج السلف في الرد على المخالف: الإخلاص


السلسلة التي بدأت نشرها يوم أمس رأيت أن أضع بين حلقاتها مقالات تبيّن معالم منهج السلف في موضوع الردود على المخالفين، لشديد الحاجة إلى ذلك، ولدعم موضوع السلسلة لمزيد من التوضيح والبيان، حيث إن المقصود هو بيان الحق وتوضيحه، وتصحيح الخطأ لاجتنابه دون الاتجاه لجانب شخصي في من يناقش في خطئه في أسلوبه أو منهجه في الاستدلال أو طريقته في الدعوة إلى الله تعالى. من معالم منهج السلف الصالح في الرد على المخالف تحري: «الإخلاص» لوجه الله تعالى.. فإن الإخلاص لله تعالى هو شرط قبول كل الأعمال.. لذا اجتهد في تحقيقه الموفقون.. وقد ظهر جليّاً في قيام أئمة أهل السنة والجماعة في ردودهم على المخالفين بمختلف أنواعهم.. فقصدوا بيان الحق وتوضيحه وإظهاره وطلب هداية المخطئين، ورد الباطل، وتحذير الناس منه، ونصرة الشريعة وتبرئة الذمة بالدفاع عنها. وإن كان الإخلاص من الأمور الباطنة التي لا يراها الناس.. إلا أن ما يشير له وما يظهر من مظاهره برز في صنيع السلف الصالح رحمهم الله، ويمكن الاستشهاد لذلك بالنقاط التالية: 1/ أنهم انطلقوا في ردودهم على المخالفين من الشفقة عليهم وقصدوا أن يؤوبوا إلى الحق بتلك الردود، وأن يكون الرد سبباً في رجوعهم عن الخطأ الذي وقعوا فيه.. وأن يقلّلوا ممن يتبعونهم في باطلهم حتى لا تكثر أوزارهم باتباع من تابعهم في خطئهم. قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: كان زائدة يجلس في المسجد يحذر الناس من ابن حي وأصحابه». قال: وكانوا يرون السيف «أي الخروج على الحكام» قال أبو صالح الفراء: حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه ــ يعني الحسن بن حي. فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ فقال: لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهي الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزاهم، ومن أطراهم، كان أضر عليهم. وبمثل هذا المعنى قال الإمام القدوة عبد الرحمن بن مهدي. لنتأمل قوله: «أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم»!!! وشتان بين من يحذر من أخطاء قوم وقصده ليقلّل سيئاتهم ويكون عوناً لهم ــ بعد الله تعالى ــ في رجوعهم إلى الحق.. وبين من يرد عليهم وله مقاصد شخصية أو حزبية أو مآرب دنيوية !!! 2/ إن أئمة السلف رحمهم الله تجردوا أمام مخالفيهم لنصرة الحق وقبوله، حتى بلغ بهم الحال أن يتمنوا ظهور الحق ولو على أيدي خصومهم!! قال الشافعي كما في سير أعلام النبلاء: «مَا نَاظَرْتُ أَحَداً إِلاَّ عَلَى النَّصِيحَةِ»، وقال الربيع بن سليمان قال الشافعي: «مَا نَاظَرْتُ أَحَداً قَطُّ عَلَى الغَلَبَةِ، وَبِودِّي أَنَّ جَمِيْعَ الخَلْقِ تَعَلَّمُوا هَذَا الكِتَابَ ــ يَعْنِي: كُتُبَهُ ــ عَلَى أَنْ لاَ يُنْسَبَ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ هَذَا يَوْمَ الأَحَدِ، وَمَاتَ يَوْمَ الخَمِيْسِ..». ذكره أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء. وفي «صفوة الصفوة» لابن الجوزي، قال الشافعي رحمه الله: «ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه». وفي «طبقات الشافعية الكبرى» قال الشافعي: «ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ». وفي «شذرات الذهب« عن الشافعي ــ أيضاً ــ: «وكان يقول وددت أن لو أخذ عني هذا العلم من غير أن ينسب إلي منه شيء»، وقال: «ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق على يديه». فشتان بين أئمة السلف وهم بهذه النوايا العظيمة والقلوب السليمة المستقيمة، وما ظهر من هذا الإخلاص والصدق، والرغبة في هداية مخالفيهم، شتان بينهم وبين بعض المنتسبين للدعوة إلى الله ممن إذا تبيّن له الحق بأدلته لم يتبعه!!! فضلاً عن أن يتمنوا ظهور الحق على يد مخالفيهم!! 3/ ارتبطت ردود السلف على المخالفين بظهور المخالفات وانتشارها، على اختلاف تلك المخالفات والأخطاء وحجمها، فإنهم لم يقصدوا بالردود قصدها «لذاتها» وإنما اضطروا إليها لبيان الحق وإظهاره ورد الخطأ والتحذير منه، وطلب التصحيح والهداية للمخطئين وحفظ الشريعة. ولذلك تجد تأليفهم في فترة واحدة في بدعة «الخوارج» مثلاً أو «الرافضة».. وتجد تأليفهم في رد بدع «الجهمية والأشاعرة والمعتزلة..». ومن له نظر في تأريخ المؤلفات السلفية وردود أهل العلم يجد أنهم كلما نهضت بدعة وقوي دعاتها وانتشرت شبهاتها تصدّى لها الأئمة لتحذير الناس منها وبيان الحق بأدلته والإفحام به والتحذير من دعاتها.. فتأمل كمثال ظهور بدعة القول بخلق القرآن والمؤلفات في ذلك الوقت.. وتأمل الصحيحين وكتب السنن وأبوابها، حيث كان جمعها في زمان ظهرت فيه كثير من البدع.. وهذا يبين ويظهر إخلاص الأئمة وأن قصدهم بردودهم نصرة دين الله.. فلم يكن في نواياهم المصالح الشخصية أو المواقف أو التكتلات الحزبية أو الانفعالات النفسية، أو النزوات العاطفية، أو التعصب للشيوخ أو القبائل، أو الحمية الجاهلية.. فإنهم يدورون مع الحق حيث كان.. ولأجل توضيح الحق ألفوا وردوا وناقشوا وناظروا.. وحاشاهم من بناء مواقفهم على مواقف شخصية!! أو ولاءات حزبية!! وإنما دليلهم وقائدهم هو تعظيم الوحي والنصوص الشرعية ونصرة التوحيد وسنة خير البرية. وما أشد حاجتنا إلى التذكير بالإخلاص في جميع العبادات، خاصة في باب الدعوة إلى الله تعالى!! ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وما أشد الحاجة إلى نشر معالم منهج السلف من صحابة النبي الكريم والتابعين وتابع التابعين، فإنهم على علم وقفوا وببصر نافذ كفوا.. وإنهم كانوا على الهدى المستقيم.. ولذلك فتح الله بهم بلاداً وهدى بهم عباداً وأخرج الله كثيرين بهم من الضلالة إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشد ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.. وإنهم بحق: أعرف الناس بالحق وأرحم الناس بالخلق. وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف وإن التقليد لبعض من لا يؤمن عليهم الفتنة من أسباب التغيير والتبديل في بعض معالم هذا الأصل، وهو مما تناقشه السلسلة التي أستأنف نشر حلقاتها بمشيئة الله تعالى. وأواصل بمشيئة الله تعالى.