حسين خوجلي

بين الزَّفرات جوىً وحريق..!!


«أ»
< كانت ثمّة بقعة ضوء تلوح وتتخافت في الأفق البعيد، وبين سجور الديجور كانت تطل كأنّها ومضة تسري في جسد الليل ثم ترتجف وتتوسل للرحيل، كان صاحبي سجين ظلمته، تارةً يغنّي أغنيات مليئة ومُتخمة بالشجن. ينتفض جسده بالليل كلما لسعته خاطرة. وهو في شدوِه الجميل تترقرق روحه الولهانة الهائمة فتشرق كأنها قطعة بلور أزرق انزلقت في سراميك الليل الناعم الملمس الرقيق.. كان صاحبنا حالة صوفية وعرفان لا حدَّ له ولا نهاية، سكبَ في ليلنا ذاك من خمرِه السحريّ والنوراني في كؤوس أفئدتنا فأثملنا وما ارتوينا.. ساحَ بنا في عالم شديدِ البريق بديعِ المعاني شفيف الظلال، ثقبَ العتمة بكلمات كحدِّ النِّصال تدفّق كالشلال بأذكار وشرابٍ ووَدَقٍ عجيب. كانت له نظراتٌ دقيقات عميقات يُدخِل بها آيات القرآن إلى جوفه الغائر ثم يعصرُ فيها ويغمس روحه وينشرُ فينا تأويلاته وتفسيراته وخواطره كحبّات اللؤلؤ والعقيق، وتلمعُ عيناه في ظلمة الليل فتخالها اقتُلعتا ورُكِّبت في حِجريها جواهر ثمينة شديدة السطوع بهيّة المرأى تسافر بلا انتهاء.. ثم يأتي صوته المتهدّج النافر من اعتصارات الروح واحتراقها، بأشعار باهرة لابن الفارض، أو رقيق النابلسي، ثم يتلوَّى على أحد جنبيه ويمدُّ يده إلى كنز السلف في صدره، فينثرنا بقولٍ لابن عربي أو المحاسبي أو قصة بشر الحافي أو الحلاج.. وينهمر الشعر وينسال.. الليل يزحف، الجبل خلفنا ورمال الوادي تشرب من ضوء النجيمات البعيدة، وأشجار المانجو تتراقص من بعيد وهي تمدُّ ذؤاباتها لنسائم السحر اللطاف. ثم.. لا يلبث ذلك الرجل العجيب وهو يتصاعد في عروجه، أن يدلق سلال فاكهة الحديث العطر أمامنا.. ويتركنا لاهين بما دَلَق.. ويغيب خلف أستار الليل ويمضي وحده كشهاب أتقنَ حرفة الرحيل السريع، ولا نلقى أنفسنا إلا على ناره على سفود العرفان نحترق وفي غموضه نضيع وفي دياجيره نلهث ونضوي ونزوي.. ونغيب..!! «ب» < الشمس مالت قليلاً عن كبد السماء، صوت قوي نادى لصلاة الظهر، انسلَّ من بين الطرقات والأزقّة والبيوت، رجال وفتيان وأطفال الحي، نحو المسجد الذي لم يكن غير كوخ من قصب الدخن الجاف حوّلته الشمس والأمطار إلى لون رماديٍّ داكن كالرماد، أبوابه من «مطارق» رقيقة جافة، على الأرض «بروش» من السعف فرشت على رمالٍ بيضاء طاهرة.. بعد الصلاة، ذات الصوت المتهدّج الليلي العجيب، يدعونا نحن الثمانية من فتيان الحي الصغار لحلقة تجويد، تفرّست في ملامح الرجل الدقيقة، لونه أسود داكن لكن يخال إليك أنه يضيء.. ويضيء.. ويضيء.. من أين يأتي النور وتنداح الوضاءة؟ لا أعرف..!! فقط كان ناضحاً بالإشراق.. بطريقة رقيقة وحاسمة، أجلَسَنا في حلقة صغيرة، وفي أيدينا مصاحف بطبعة قديمة وعتيقة ومهيبة، صوته وهو يقرأ آيات الذكر الحكيم ويرتّل القرآن، بعث فينا شعوراً غريباً. وضع على كتفَي كل منّا جناحَين وحلّقنا في السماء البعيدة واحتوانا فضاءٌ رحيب.. عندما خرجنا من أول حلقة وكان بعضنا له نصيب سابق من عِلمٍ بالتجويد، تغيّرت خطواتنا الصغيرة على الأرض، كأنّ طاقة خرافية تسري في عروقنا، واطمئنان لا حدّ له اجتاحَ دواخلنا المُقفرة، وتباهى بعضنا عند عريشة «كنتين» الحي المشيّد من «الزنك» بقليل من النذر اليسير الذي تذوّقناه، وقفزت تلك الشعاعات المزركشات اللامعات من أعيننا وابتساماتنا، وحوّلتنا تلك الحلقة إلى حبّات مسبحة من صندل.. «ت» < مزيج غريب كان أحد الصحاب، فهو ينهل معنا من منهل واحد، قد روى ظمأه مثلنا، إرتشفَ تلك الرشفات، وكنا نرى تدفّق الشراب النوريّ في حلقه ونتابع جريانه في شرايينه وأوردته ويتخلل داخله ويتمشى في أمشاجه، كان زاده مثلنا تماماً، خطواته كخطواتنا، كبواته ككبواتنا، إعجابه بالرجل العجيب مثل إعجابنا، فهو ما إن ينتهي من حلقة التجويد، أو أية مدارسة فقهية على مستويات الفقه البسيط والفتيا المتيسرة، حتى يخرج مهرولاً إلى بيتهم باسماً طلقاً منشرحاً، يلعب الكرة عصراً، وبعد المغرب يرتدي ثيابه الأنيقة ويهب لحضور أي فلم في السينما، وكان يعشق أفلام «الويسترن» ويحفظ أسماء أبطالها وممثليها، ويغنّي لكبار المطربين ويعابث بعض الكتب الطائشة ويهوي المسرح، لم يكن بينه وبين الآخرين إلا شبرٌ كما نظن، ولم يكن بينه وبين الآخرين إلا سنة ضوئية كاملة كما كان يظن هو… ولقد كان. أكسبته الروح الطلقة كل التوازن الذي يريد، نفََضَت عن نفسه العُقد والتزمُّت، وجعلته أكثر توهجاً وأعظم أثراً وأوفر حظاً في اصطياد الوافدين الجدد والمنتسبين الذين تعجبهم السباحة في بِركة النور والإشراق تلك.. كان قويّ الحجة حين يجادل، رقيق العبارة والوداد حين يخالف وحين يؤالف. «ث» < جلس الشيخ الورِع، وضيء المحيّا، يحدّثهم عن قومٍ أحبوا الله حقَّ حبّه فاصطفاهم كما تمنّوا وسعوا، قال لهم: «كانت الأنجُم تجثو تحت أقدامهم. قد حوّلَتهم بركات الإيمان إلى ملائكة بلا أجنحة، تترقرق الأرواح وتسمو، كأن الأعين قد غسلها ندىً وطلٌّ من كوثر السحاب المسافر، كان بعضهم يشبه الطيور الخريفية البيضاء التي تعبر الفضاء في رحلتها من الجنوب إلى الشمال، وكان البعض الآخر كدمدمة الرعد رغم قسوة صوته؛ فيه خير وفير وكبير. الحياة كلها صافية يجرون في عراصاتها مثل الأيائل ويشمخون بجباههم فيها على ظنِّ أنهم ملكوها كلها وعرفوا أسرارها ودقائقها، ألم تكن طمأنينة الروح هي السكينة وهدأة الخاطر وروعة الأمكنة والأزمنة؟!.. هي ثمرتها اليانعة التي قطفتها النفوس؟.. ألم تكن الدنيا والناس سوى رهو من سحاب سريع وغلالة من طيف تمر وتتسارع من دار الممر لدار المقر..؟!! لقد زوّدوا أنفسهم بزادٍ قليل وملأوا أرواحهم للسفر الطويل، فوسعت القلوب الناس واتّسعت الصدور، وما أجمل الحياة حين نراها من ظلمة الليل البهيم ونتذوّقها من جليل الكَلِم وجميله ينفحُنا فيه عبق الإيمان والتُّقى.