مقالات متنوعة

طه النعمان : (الخطوط البحرية)… في ذمة الله !


*نعى وزير النقل والطرق والجسور مكاوي محمد عوض يوم الجمعة الماضي (13 ابريل) شركة الخطوط البحرية السودانية عن عمر ناهز عمر الاستقلال.. وأبلغ برنامج (مؤتمر إذاعي) الذي تبثه الإذاعة القومية أنه تم البدء في تصفية (سودان لاين) بعدما أصابها (التعسر والموت)- على حد تعبيره- وقال إن الخطوط البحرية أصبحت عاجزة عن إمتلاك أي باخرة مضيفاً أن آخر باخرة تعمل بها، وهي (مودة)، كانت مستأجرة.
*الخبر الحزين كان له وقع مؤلم على نفس كاتب هذه السطور.. ذلك لأنني خبرتُ الشركة المذكورة منذ وقت مبكر عندما كانت تجوب البحار والمحيطات حاملة صادراتنا ووارداتنا إلى ومن كل فج عميق.. وهي خبرة اتصلت على مدى سنوات مكنتني من متابعة ما كان يحيط بـ (بسودان لاين) وما يدبر لها.. لسبب بسيط هو أنه كان في قياداتها أخي وابن عمي الراحل محمد أحمد النعمان – رحمه الله وبوأه أعلى الجنان – والذي تدرج في مراقيها الوظيفية منذ تخرجه في جامعة الخرطوم، كلية الاقتصاد، حتى غدا مديراً عاماً لها.
*وشاءت الأقدار أن أكون شاهداً لبدايات الاستهداف الذي انتهى إلى (الخبر الحزين).. الذي أعلنه السيد الوزير من دون أسف أو إشارة لما أنطوى عليه من أبعاد مأساوية، حتى من قبيل التعاطف الوطني أو الإنساني لانهدام صرح أو مؤسسة من صروح الوطن ومؤسساته.
*لقد ساقني القدر في عام 1996 أن أتجه والأسرة بالطائرة إلى بورتسودان في طريقي إلى الديار المقدسة لأداء العمرة.. بعد أن نصحني بعض الإخوة بأنها ستكون رحلة بحرية أكثر امتاعاً من السفر المباشر جواً إلى جدة.. وبطبيعة الحال نزلت على أخي (محمد الأمين) وهذا اسمه الكامل في أوساط العائلة.. ولم أكن أعلم أنه يمضي آخر أيامه في إدارة تلك الشركة العملاقة.. حتى فوجئت بحفل غداء يقيمه في داره لمن جاء لخلافته واحتلال موقعه.
*فيما بعد، وإثر عودتي من العمرة أتاني أخي (النعمان) الذي أُنهيت خدماته وحل ضيفاً عزيزاً على دارنا، وفهمت منه أنه تم ترشيحه لانشاء إدارة للحج والعمرة، لأنه حسب تقييم المسؤولين عن (اللجنة الاقتصادية) التابعة لمجلس قيادة الثورة حينها أنه (راجل مولانا) وهذا أنسب له.. وبالفعل بدأ عمله في مكتب صغير بوزارة الرعاية الاجتماعية.. وما هي إلا سنوات حتى ربت إدارة الحج والعمرة وتعملقت إلى مؤسسة عامرة بموجوداتها وعمرانها في الداخل وفي الديار المقدسة.. وأصابته هو _رحمه الله- أثناء مجاهدته لزيادة حصة السودان من الحجيج والمعتمرين جلطة أذهبت بصره واقعدته حتى غادر الفانية راضياً مرضياً.. فقد كان ديدنه الزهد والتعفف عن عرض الدنيا، فالآخرة عنده خير وأبقى.. وكما أصبح في علم الكافة فقد تكالب على قصعة (هيئة الحج والعمرة) من بعده كُثرٌ (طمعاً في الميراث الثمين، فشهدنا الصراعات التي سارت بذكرها الركبان).
*أما (المرحومة) سودان لاين فقد ذهبت على طريق منحدر نحو الهاوية عاماً بعد عام، وتم (تشليعها) باخرة أثر أخرى وبيعها جهاراً نهاراً في (سوق الخردة)، بعد أن تم تشريد كادرها الذي حال (محمد الأمين) دون إعمال سيف (الصالح العام)، الذي كان سيطال منسوبيها واقفاً بقوة أمام (اللجنة الاقتصادية) التي طلبت منه أن يفعل، ولكنه – كما الراحل محمود شريف في إدارة الكهرباء- استعصى عليهم واستعصم بموقفه العادل: بأن هؤلاء المهندسين والقباطنة والفنيين نالوا تدريباً دولياً مكلفاً على حساب الشركة، والوطن أجدر بأن يحافظ عليهم لأنهم جزء من رأسمالها وموارد البلد البشرية.. فكان هذا بالإضافة إلى مقاومته هوجة الخصخصة التي داهمت مؤسسات الدولة حينها، حتى الرابح منها، هو السبب في الاستغناء عنه رحمه الله.
*وها نحن اليوم نكتب، بينما تخقنا العبرة (مشيعيين) (سودان لاين) إلى مثواها الأخير.. برغم إعلان السيد الوزير إنتهاء العزاء بانتهاء مراسم الدفن”.. فلا حول ولا قوة إلا بالله.