تحقيقات وتقارير

تكفي لـ 20% فقط من الالتزامات الشهرية أجور العاملين… ضعف العائد يغري بالفساد


إكرامية.. تسهيلات.. مسح الشنب.. حق اللبن تقود للوقوع في المحظور
رئيس اتحاد العمال: يوجد فرق بين الراتب وتكاليف المعيشة
خبير اقتصادي: قفل باب الفساد بزيادة الإنتاج والصادر

(المرتب يكفينا ما بين أسبوع إلى عشرة أيام، وبعدها ندخل في دوامة لا يعرفها إلا الله).. الشكوى المضمنة بين المعقوفتين جرت على لسان “عثمان” الموظف بولاية الخرطوم، الذي قال إن منسوبي الخدمة المدنية خاصة في الدرجات الدنيا يواجهون معاناة لا حدود لها.

وبدا عثمان محبطاً من حديث رئيس اتحاد نقابات عمال السودان الأخير الذي أكد خلاله تقديرهم لظروف الدولة وعدم مقدرتها على زيادة الأجور، وقال: “طيب نحن منو البقدر ظروفنا”، ويشاطر عثمان عدد من المختصين الرأي حول أن الأجور المتواضعة التي يتقاضاها العمال تعتبر دعوة صريحة للفساد. ويشيرون إلى أن الدولة وبعدم زيادة الأجور الشهرية كأنما تقول لمنسوبي الخدمة المدنية “اتصرفوا”.

اعتراف
ضعف الأجور اعترف به رئيس اتحاد العمال بالسودان، علي عبد الكريم، الذي قال لـ(الصيحة) إن فلسفتهم قائمة على التصالح مع الحكومات، وجزم بأن الدولة لن تستطيع توفير راتب مساوٍ لتكاليف المعيشة التي تزداد غلاء يوما بعد يوم، ومضى عبد الكريم معترفاً بوجود فرق بين الأجر الذي يتقاضاه العامل وتكلفة المعيشة بالسودان.

ويجد عدم مقدرة الدولة على رفع الأجور تفهمًا لدى رئيس اتحاد عمال السودان، ويبرر قوله هذا بالتصالح مع الحكومة في سبيل الضغط عليها من أجل الوصول إلى الحد الأقصى للأجور والزامها بزيادتها، ومع ذلك نجده يقول إن الدولة غير قادرة على هذا الدفع، مفسراً قوله: نحن لسنا مثل دول الخليج التي وصلت الى قدر عال من الرفاهية حتى أضحى المواطن فيها منعماً في ظل ظروف اقتصادية مواتية والسودان مواجه بوضع اقتصادي أقل ما يوصف بأنه صعب ولا تستطيع الدولة أن توفر مرتباً يعادل تكلفة المعيشة.

البون الشاسع
عدم مقدرة الدولة على رفع الأجور كانت هي الشماعة التي ارتكز عليها رئيس اتحاد عمال السودان والذي بدا أكثر صراحة حينما ذكر لـ(الصيحة) أن الأجر غير مساوٍ لتكلفة المعيشة ولا يوجد تناسب منطقي بينهما والبون شاسع، مع الأخذ في الاعتبار أن الحد الأدنى للأجور ما بين 425 و600 جنيه وهذا الأجر المتواضع لا يفي بحاجة من يقتات عليه ولا يكفي لسد 18 أو 19% من حاجة العاملين أو من تكاليف حياتهم اليومية، وحتى عدم قدرة الدولة على سداد المرتبات تعد واحدة من العقبات التي تواجه العامل السوداني، فإقرار الزيادة على الرواتب الذي يدغدغ أحلام العاملين سرعان ما يتبخر ويصبح عبارة عن متأخرات تعجز الدولة عن سدادها. ويلقي خبراء اقتصاديون باللوم على السلطات التنفيذية التي تسببت في هذا الترهل.

منحة الرئيس
زيادة وتحسين وضع العاملين ورواتبهم أمر تداولته الدولة كثيراً، فمنذ العام 2004م وحتى العام 2007م كان الحديث حاضراً عن زيادات مستحقة في أجور العاملين، حيث استحدثت الحكومة بما يعرف بـ(منحة الرئيس) والتي أقرها الرئيس عمر البشير، لذا حملت اسمه وتم سدادها على دفعات وصلت إلى 200 جنيه. وفيما عدا موازنة 2004م لم تتضمن موازنات الدولة أي زيادة في الأجور، فهل هذا ترخيص وتمهيد لطريق الفساد؟ مع هذه الظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشها المواطن.

سراج الطريق
لعل وقود الأمة وسراجها الذي يضيء لها الطريق هو المعلم الذي يعد من أهم الشرائح الوظيفية بالدولة، ويعيش تحت واقع اقتصادي صعب بحسب أساتذة استنطقتهم “الصيحة”، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ صالح الضو المعلم بمرحلة الأساس أن الأجر الذي يتقاضاه المعلمون لا يتماتشى مع الحقائق المنطقية والواقعية التي يعيشونها، وأضاف: دائماً نعيش على أمل وعود الزيادات التي تأتي طفيفة ومباشرة تعقبها زيادات في كل شيء ابتداءً من الغاز والخبز وفي كل شيء، واستطرد الأستاذ صالح قائلاً: المعلمون في المدارس الحكومية (امورهم ماشه بالبركة وبالنية بس).

نضرة النعيم
اكتفى الأستاذ صالح واضعاً ملايين العبارات تحت عبارة (خليها بالنية)، فالنية السليمة لمعلمنا بالمدارس الحكومية أظنها هي التي تسير أوضاعه الحياتية لنتركه ونتجه إلى “أحمد” الموظف بوزارة الري والذي أكد أن الأجر الشهري للعاملين في القطاع العام لا يكفي لتوفير الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، وقال أحمد إن منسوبي الخدمة المدنية إذا اتجهوا الى ارتكاب مخالفات مثل “الرشوة، والاختلاس” فإن الخطأ لا يقع عليهم بل على الدولة التي من واجبها أن توفر لهم أجورًا جيدة تغنيهم عن شر الحاجة والوقوع في الخطأ، ويضيف: الأجور الزهيدة نعتبرها دعوة صريحة للفساد، ولكن الحمد لله السواد الأعظم من العمال يبتعدون عن هذا الطريق ويجتهدون في البحث عن مصادر دخل إضافية”.

للضرورة أحكام
ويشير المعلم “خالد” إلى أن ضعف الأجور انعكس سلباً على العملية التعليمية في البلاد، ويفسر قوله هذا بالإشارة الى أن تركيز معلم المدارس الحكومية بات ضعيفاً وأنه يجتهد بكل إمكانياته الفكرية والبدنية لأداء مهمته دون نقصان، وذلك انطلاقاً من مسؤوليته، ولكنه في النهاية هو بشر يتأثر بالأوضاع التي تحيط به، لذا من الطبيعي أن يذهب جل تفكيره نحو كيفية توفير مصدر دخل إضافي، وهذا يدفعه إلى البحث عن وظيفة أخرى، وأردف قائلاً: وهذه الوظيفة تتمثل في المدارس الخاصة التي تمنحه راتباً جيداً يساعده مع أجره الحكومي على توفير جزء من متطلبات أسرته، ولكن بالتأكيد فإن عمله في مدرستين أو تركيزه على الدروس الخصوصية يخصم كثيراً من أدائه في المدرسة الحكومية، ويعتقد أن هذا الأمر يسهم في اهتزاز صورة المعلم الذي وضعته الظروف الاقتصادية في وضع صعب لا يمكنه الخروج منه إلا بزيادة أجره الشهري.

أبواب الغربة
“عمر” الذي يعمل موظفاً بمرفق حكومي بولاية الجزيرة، يقول إنه ورغم بلوغه العقد الثاني من عمره إلا أنه بدأ يفكر جاداً في الهجرة، وقال لـ(الصيحة) إن الأجور الزهيدة التي يتقاضونها لا تكفي 10% من احتياجات الشهر، موضحًا أن بعضاً من منسوبي الخدمة المدنية باتوا لا يهتمون كثيراً بأمر “الحلال والحرام”، وأنهم في سبيل تغطية العجز الذي يعانون منه فإنهم لا يتحرجون من أخذ “رشوة” أو ما يطلق عليها تسهيلات، وقال إن الدولة مطالبة ببحث أسباب تفشي الفساد، وأضاف: “أنا على ثقة تامة أنها إذا فعلت هذا ستجد ان الأجور الزهيدة تدفع البعض للتعدي على المال العام، وستجد الإجابة على التساؤل الذي يردده الكثيرون عن أسباب شيوع مفردات مثل “مسح الشنب وحق اللبن”.

أحد العاملين بوزارة خدمية – رفض ذكر اسمه – أوضح لـ(الصيحة) تقاضيهم رواتب لا تكفي لتسيير منصرفات ربع الشهر، ولهذا يجدون أنفسهم مضطرين لسلوك طرق مختلفة يتحصلون منها على ما يسدون به هذا البون الذي يخلفه ضعف مرتبهم، وقال: (نحن بنتصرف بس غصباً عننا لأن لدينا أطفال بالمدارس لا يعرفون كيف نعاني ولا دخل لهم في المصاعب التي تواجهننا بل يريدون حاجياتهم مكتملة، وأردف: “نسمع بالكثير من القصص في المجتمع التي تقول بوجود موظفين مرتشين، وغيرها من الأشياء، ولكن في خاتمة المطاف أقولها بصراحة: لو كان مرتبنا يكفي أيام الشهر فو الله لن نلتفت إلى مال الدولة أو غيره، ولن تجد أحدًا يتصرف بل سيوجد تفانٍ وإخلاص في الخدمة.

غادرناه بعد أن أدركنا خلاصة الأمر وهو ضعف الراتب الذي جعلهم يفعلون ما لا يرضون تحت الضغوط الاقتصادية القاتلة.

تسهيلات
ما يشاع وما يرى ويسمع عن حال العاملين بكافة المؤسسات الحكومية كثير، ففي اليوم تسمع مئات القصص عن أن فلاناً دفع كذا وكذا من أجل التسهيل لأمر ما وأصبح هناك عرف سائد في الدولة وهو (ادفع أمورك بتسلك) فضعفاء النفوس الذين يجدون أنفسهم أمام إغراءات الميسورين وتحت رحمة الضغط الاقتصادي الصعب، لا يرفضون استلام ما يطلقون عليه إكرامية، وهي اسم الدلع للرشوة وذلك لسد الفجوة التي يخلفها الراتب الذي لا يفي بالحاجة ويعزو كثير من المحللين والمراقبين شيوع ثقافة التسهيلات والرشوة بالمؤسسات والمصالح الحكومية وحتى الخاصة إلى ضعف الأجور.

غول السوق
في تعليقه على ضعف الأجور وما يمكن أن يسفر عنه يقول الخبير الاقتصادي مدثر وداعة الله في حديثه لـ(الصيحة) إن زيادة الأجور ليست الحل لأن غول السوق غير المضبوط سيلتهم كل المبالغ والسيولة التي يتم ضخها، مؤكداً أن الارتفاع الجنوني للأسعار كفيل بقتل أي زياده في أجور العاملين.

ويرى وداعة الله أن السلع في السوق محدودة والتنافس عليها بزيادة أجور الموظفين هو مدعاة لزيادة سعرها لأنها ستصبح من الاحتياجات التي يتنافس عليها الكثيرون، ودعا وداعة الله الى زيادة الإنتاج بدلاً من زيادة الأجور، لأن هذا في اعتقاده يؤدي الى مزيد من التضخم، وهذا الأمر يوافقه عليه الخبير الاقتصادي دكتور عثمان البدري بمعهد الدراسات والبحوث الإنمائية بجامعة الخرطوم والذي يرى أن زيادة الأجور مع وجود هيكل للأجور به خلل كبير سيبتلع السوق هذه الزيادات، ويرى وداعة أن الزيادة يجب أن تكون متوازنة إنتاجًا وأجراً حتى يمكن الجزم بأن المواطن سينعم بواقع اقتصادي أفضل.

مشاكل الهيكلة
الدكتور عثمان البدري بمعهد الدراسات والبحوث الإنمائية بجامعة الخرطوم قال لـ(الصيحة) إن المشكله التي تواجه الاقتصاد السوداني ليست ضعف الأجور، ولكن الخلل الكبير الذي يلازم هيكل الأجور، وأردف: وإذا حدثت زيادات في الأجور مع هذا الوضع، وهذا الخلل الهيكلي فإن المشكلة ستظل قائمة لأن مشكلتنا ليست قلة الأموال ولكن المعضلة في التآكل المتسارع والمستمر في القيمة التبادلية للجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، والعملة السودانية كقيمة شرائية لا تساوي ثمن الحبر الذي طبعت به.

ميزان مختل
ويرى الدكتور البدري أن الهيكل التراكمي للأجور بالدولة يتنافى مع الدين والعدالة والعرف فالمرتبات بالدولة تتراوح ما بين 400 جنيه إلى 50 ألف جنيه، وأضاف: هذا ميزان مختل وخلل هيكلي ينبغي أن يعالج بأسرع ما يمكن، ففي علم الإدارة ندرس طلابنا ونقول لهم إن الحد الأعلى للمرتبات لا يزيد عن الحد الأدنى ست أو سبع مرات بمعنى أن أعلى راتب في الدولة يفوق أدنى راتب ست أو سبع مرات ولا يزيد على ذلك، لافتاً إلى أن السودان يفتقر الى الهيكل الوظيفي الموحد حيث أصبحت مؤسساته كإقطاعيات أو دويلات يشرع كل منها هيكل للأجور على هواه فليس هناك ضابط يضبط جميع مؤسسات الدولة الواحدة، وزاد: ما ما نشهده الآن من مرتبات خيالية هي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.

وصفات ناجعة
وحتى لا يكون ضعف الأجور مدخلاً للفساد، يضع الخبير الاقتصادي مدثر وداعة الوصفة التي يرى أنها مخرج موضوعي يعالج الأزمة برمتها، ويرى وداعة أنها تتمثل في ضبط الأجور والسوق، وهذا يروق تماماً لأستاذ علم الإدارة الدكتور عثمان البدري والذي يوصي بضبط السوق وضبط هيكل الأجور وإصلاح الخلل فيه والأهم من ذلك دعم الجنيه السوداني بتشجيع الإنتاج وأخذ الضرائب التصاعدية والنظر الى الصادرات التي يقول إنها صادرات لمواد خام وأولية، وقال: هذا عيب في حقنا، فعلى الدولة إصدار قرارات فورية تمنع فيها تصدير المواد الخام ولا تسمح إلا بصادر جاهز للتصنيع، فهذا الأمر سيساهم في زيادة حصيلة النقد الأجنبي.

روشتات
والروشتات التي حررها دكتور البدري للوصول الى اقتصاد معافى من النقائض يقود إلى العدالة والرفاهية ويجنب ضعيفي الأجور والنفوس شر الوقوع في الرشوة والتعدي على المال العام والفساد، هذه الروشتات تتمحور ضرورة خفض الإنفاق الحكومي في المباني وأثاثها وحتى الهيكل الإداري المترهل، فهذا كله نزيف للموارد الشحيحة بدون عائد حتى يتراجع التضخم وتمر البلاد، ومن ثم تتحسن الأحوال المعيشية، فهذا الأمر يجنبنا كثيراً من الفساد الذي تشهده دورنا الحكومية وغيرها.

تحقيق: وليد الزهراوي
صحيفة الصيحة


تعليق واحد

  1. (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) سورة الطلاق