مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : هكذا كانت حلقات الإمام مالك العلمية أيها «المتشنّجون»


رأيت التنويع في أسلوب معالجة ظاهرة «التشنّج» و«التوتّر» في الخطاب الدعوي، ومن ذلك رأيت أن أعرض بإيجاز كيف تكون مجالس العلماء، بالاستشهاد بمجلس الإمام مالك رحمه الله تعالى.. لقد حرص الإمام مالك على طلب العلم وأحبه وصبر وجد في تحصيله وتجلد في سبيل ذلك، وتحرى في أخذ العلم عن أهله الموثوقين، فأحسن انتقاءهم واختيارهم كشيخه الزهري وربيعة وابن هرمز ونافع وغيرهم، هؤلاء الأربعة من التابعين الذين تتلمذوا على الصحابة الكرام، فاجتمع للإمام مالك رحمه الله ذلك مع ما وهبه الله تعالى من سرعة الحفظ وكثرته مع فهمه وإتقانه، فكانت هذه الأمور بعد توفيق الله تعالى ــ من المؤهلات لأن يكون الإمام مالك معلماً وإماماً فحصل له ذلك في حياة بعض شيوخه، فقد بدأ الإمام مالك التدريس والتعليم والافتاء بعد أن استوت رجولته ونضج عقله، وذلك بعد أن استشار أهل العلم، وكان يرى أن ذلك لا بد منه!! فقد قال في ذلك: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل.. فإن رأوه لذلك أهلاً جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك». واستشار في ذلك شيخيه: الزهري وربيعة. وقد بلغ في درسه من إجلاله للحديث مبلغاً عظيماً. وقد صاحب تدريسه التزامه السكينة والوقار والبعد عن اللغو، وكذا البعد عن المسائل الافتراضية التي لم تحدث. ولذلك كان مجلسه من أكثر المجالس هيبة. قال أبو مصعب: «كانوا يزدحمون على باب مالك فيقتتلون على الباب من الزحام، وكنا نكون عند مالك فلا يكلم ذا ذا ولا يلتفت ذا إلى ذا، والناس قائلون برؤوسهم هكذا، وكانت السلاطين تهابه وهم قائلون مستمعون، وكان يقول في مسألة: لا أو نعم، ولا يقال له: من أين قلت ذا؟». وكان إذا جلس جلسة لم يتحول عنها حتى يقوم إذا شرع في الحديث تهيبه تلاميذه وكأنهم لم يعرفوه ولم يعرفهم وكأن الطير على رؤوسهم. فجزاه المولى سبحانه وتعالى على إجلاله لحديث رسوله صلى الله عليه وسلم هيبة وإكراماً من أهل العلم والفضل وذي السلطان. قال سعيد بن أبي مريم: «ما رأيت أشد هيبة من مالك، لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان». وقال الشافعي: «ما هبت أحداً قط هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه». ومما أُنشِدَ في ذلك: يأبى الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نوكس الأذقان أدب الوقار وعز سلطان التُّقَى فهو المَهِيبُ وليس ذا السلطان وما نقل في ذلك كثير جداً والمقصود ذكر نماذج فقط وللاستزادة فإنه يمكن الرجوع إلى كتاب «ترتيب المدارك» للقاضي عياض وغيره. وأما تحريه للفتوى وورعه في ذلك، فإن الإمام مالكاً يعد إماماً بحق في ذلك، وقد سُطرت في كتب أهل العلم نقولات عظيمة عنه في ذلك. وقد تقدم أنه تأثر في ذلك بشيخه ابن هرمز. لا سيما في قول: «لا أدري» وعدم التجرؤ على الفتيا. ومما نقل عنه في ذلك: أنه كان يقول: ربما وردت عليَّ المسألة فأسهر فيها عامة ليلي وكان ـ رحمه الله ـ إذا سئل المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها، وكان إذا سئل عن مسألة تغير لونه وقال بعضهم: لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار، وكان يقول: «من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب». ونظراً لأن المفتي يكون حجة بين السائل وبين الله تعالى، فقد كان الإمام مالك كثيراً ما يقول في بعض المسائل: لا أدري، وكان مع علمه الغزير ومكانته وإمامته لا يتحرج من أن يقولها. قال الهيثم بن جميل: «سمعت مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ «لا أدري». وقال خالد بن خداش: «قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل». وهذا منه ـ كما تقدم ـ عملاً بوصية شيخه ابن هرمز له حيث قال له فيما يرويه الإمام مالك عنه: «ينبغي للعالم أن يورِّثَ جلساءه قول: «لا أدري» حتى يكون ذلك أصلاً يفزعون إليه». وقد سأله رجل عن مسألة وذكر أنهم أرسلوه ليسأله عنها مسيرة ستة أشهر، قال: هاتها، فأخبره بها، فقال: لا علم لي بها، فأخبر الذي أرسلك أني لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله. ثم قال: قالت الملائكة: «لا علم لنا إلا ما علمتنا». ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا: أن قول لا أدري لم يكن من الإمام مالك عن عجز مطلق، ولكن كان يكون ذلك منه عندما يكون الذي وصل إليه ظناً لا ينبغي إعلانه، أو أنه لم يجد إجابة شبيهة لهذه المسألة فيما سمع من فتاوى الصحابة وما أثر عمن يقتدى بهم من العلماء والمشايخ ولذلك كان يقول ـ رحمه الله ـ منكراً على من يتعجلون الفتوى: «ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة وخيار الصحابة، كانت ترد عليهم المسائل، وهم خير القرون، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألون حينئذٍ ثم يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يفتح من العلم…». قلت: فكيف بالإمام مالك ـ رحمه الله ـ لو رأى أهل زماننا هذا؟ فقد رأينا ـ للأسف ـ تجرؤ كثير من الناس على الفتيا والكلام عن دين الله والتحدث عن الشريعة وهم ليسوا أهلاً لذلك، بل هم من أجهل خلق الله بدين الله، وقد ساعدهم في ذلك وفرة وسائل الإعلام من قنوات ومواقع إنترنت وغيرها.. فنسأل الله لهم الهداية ولنا العافية. وقال ابن وهب: لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك: «لا أدري» لفعلت والنقول في ذلك عن الإمام مالك كثيرة وعظيمة تدل على تحريه في الفتوى وتقواه وورعه في ذلك وخوفه من سؤال الله، وليس المقصود حصر النصوص في ذلك، إذ ذاك أمر يصعب جمعه فيما نحن بصدده ولكن المقصود ذكر نماذج تبين منهجه في ذلك وللاستزادة فإنه يمكن الرجوع إلى «ترتيب المدارك» و«الانتقاء» و «الديباج» و«السير». قلتُ: إن مجلس الإمام مالك هو كغيره من مجالس العلماء السابقين ومن سار على نهجهم من التابعين ممن اهتدوا واقتدوا بإمام الأنبياء والمرسلين محمد عليه الصلاة والسلام، إنه مجلس ينشر فيه العلم والهدى والسنة، بإجلال وتوقير ومهابة، بطرح علمي جاد، وقد يحصل فيها من الطُرَف المفيدة بالضوابط المرعية، من التقيد بالآداب الشرعية والتحلي بالأخلاق السويّة، ومن اطلع وتأمل هذا الجانب في مجالس العلماء وطريقة التدريس فيها وأسلوبهم في نشر العلم، ومن وُفّق للجلوس مع العلماء الربانيين في زماننا أدرك ذلك بوضوح وجلاء، وعليه فإن من أهم المهمات التي يذكّر بها العالم والداعية وطالب العلم والخطيب وغيرهم أن يعتنوا بذلك، فإن بعض المجالس وللأسف كثرت في زماننا بسبب تقليد بعض المعاصرين ممن لا يؤمن عليهم الفتنة ــ غلب عليها «الضحك» ووقع أصحابها بل بنى بعض أهلها كلامهم وخطابهم على السخرية بالآخرين، وبعضهم ربما رأى أن في ذلك تلبية لرغبة الحاضرين!! وبعضهم ربما حمله التقليد الأعمى!! وبعضهم لم يعلم الحق فوقع في الباطل جهلاً منه وقل غير ذلك في أسباب هذه الظاهرة ، وخرجت عن جانب الجادة في ذلك، وجاءت بإحداث خطير ومنكر وبيل، واتجهت بممارسات ــ يقلد فيها بعضهم بعضاً ــ نحو تبديل وتغيير الهدي النبوي العظيم في مخاطبة المدعوين ونشر العلم وبيان الحق وتخطئة المخالفين.. فليكن في نشر هذه المادة التي انتقيتها من بحثي في رسالة الماجستير دلالة بإيجاز على وصف مجالس أهل العلم.. وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.. والموفق من وفّقه الله..