مقالات متنوعة

محمد لطيف : سيدي الوالي.. هذا كلام فاضي


مثلي مثل كل السودانيين كنت قد صدقت الحكومة أن اكتمال سد مروي سيكون آخر الأحزان.. أقصد آخر عهد السودان بانقطاع التيار الكهربائي.. فحشدت كل مواردي.. لغبائي.. لحشد كل ما تصل إليه يداي من الأسمنت.. ثم شيدت منزلا لا يدخل إليه الأوكسجين من بين يديه ولا من خلفه.. إلا عبر التيار الكهربائي.. الذي كنت قد صدقت أنه سيكون متاحا.. زي الهوا.. الذي انعدم هو الآخر.. ففي تمام الثامنة من صبيحة أمس الأول الخميس.. رُفعت عنا الكهرباء.. ونحمد الله أن أقلامنا لم ترفع بعد.. وتحول البيت إلى.. ثلاجة موز.. فهرولت إلى خارجه.. بحثا عن هوا الله.. بعد أن ضنت الحكومة بهواها.. ولأن الله لا يحرم عباده من كل شيء.. فقد رأيت غير بعيدٍ شجرة وارفة الظلال.. أقسم إنني لم أرها من قبل.. ثم والبشريات تترى.. فما أن اقتربت من الشجرة حتى رأيت تحتها مقعدا قد قُد من صخر.. وصيغ بعناية.. راحة للجالسين.. حتى أنني شككت أن أحدا في الأنحاء قد أعده للجلوس.. ولما أيقنت ألا أحد وراء العملية.. اتخذت مقعدا على الصخرة.. وأنا أتعاطى الهواء الإلهي المجاني.. وأتأمل في ما حولي..!
ولكن للحكومة رأي آخر.. أبت إلا أن تفسد جلستي.. فغير بعيد مني.. كان صندوق للنفايات يتوسط كومة منها.. وكنت أتساءل عن جدوي الصندوق إذا كانت سعته محدودة.. وسرعان من تنثال النفايات وتغطي ما حوله.. ثم تتولى الرياح نشر ما تيسر من فوارغ ومن عبق.. كان ذلك ظني.. ولم يدر بخلدي أن السستم هو المشكلة أيضا.. حتى حدث ما حدث أمامي.. فجأة وصلت عربة النفايات.. كان حضور عربة النفايات في الماضي تسبقه.. صفافير.. وجلبة عمال.. ولكن تلك العربة قد وصلت يسبقها صمت مطبق.. وتوقفت تماما عند ذلك الصندوق الذي كنت أتأمله محاطا بالقمامة.. وحين رأيت حشدا من العمال في العربة.. أيقنت أنهم ولا شك منكبون على تلك النفايات حول الصندوق لجمعها قبل كل شيء.. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.. كل الذي حدث أنهم استغرقوا وقتا طويلا في ربط الصندوق بالعربة.. ليتولى السائق سحبها آليا.. وينقل ما بجوفه لجوف العربة.. إذن ما سر هذا الحشد..؟ صبرا.. فقبل أن يفرغ الصندوق كل حمولته كان أحد العمال قد قفز برشاقة داخل صندوق العربة.. وراح ينبش داخله.. وبقية العمال يحيطون بالعربة إحاطة السوار بالمعصم.. يتلقفون كل ما يقذف به زميلهم إلى الأرض.. لقد قضى كل ذلك الحشد ما يقارب نصف الساعة في عمل لا علاقة له البتة بجمع النفايات.. ولا بحملها ولا بحرقها.. ولا بنظافة العاصمة ولا بتجميلها.. ماذا كانوا يفعلون..؟ لا أدري..! ثم تصور أن هذا المشهد يتكرر في كل نقطة تجميع للنفايات.. وأحسب الوقت والجهد والطاقة المهدرة.. وإني لأجزم أن ثغرتين أساسيتين ينفذ منهما مثل هذا السلوك.. الأول ضعف الأجور الممنوحة لهؤلاء العمال.. رغم ضخامة الإيرادات المتحصلة من رسوم النفايات.. ثم غياب الرقابة على الأداء.. فالإداريون والموظفون الذين يحصلون على الحصة الأكبر من الحوافز.. تنتهي علاقتهم بوظائفهم في الواقع عند التاسعة صباحا.. فلا يتابعون.. ولا يراقبون.. ولا يلاحقون..!
وأبي ذلك المشهد السريالي إلا أن يكتمل بمرور بائع للصحف.. فكان أول ما وقع عليه نظري إعلان لعل مطلقه صديقنا عمر نمر.. يوضح فيه أنه هو شخصيا.. ثم السيد وزير البيئة.. ثم السيد والي الخرطوم.. ثم السيد المساعد الأول للرئيس.. سيقومون جميعا صباح اليوم بتدشين ورشة صيانة آليات النظافة.. فقلت في سري.. ليتهم صرفوا النظر عن هذا الاحتفال.. ثم اتخذوا من ذات الميقات بداية لمراجعة أداء الكادر البشري.. وتأهيله والوفاء بحقوقه.. ما جدوى صيانة الآليات.. إذا كانت عربة النفايات في وضع التشغيل من أربع إلى خمس ساعات يوميا.. بينما العمال مشغولون.. لا بجمع النفايات.. بل بـ.. بفرزعتها.. بحثا عن الفاضي.. فعلا كلام فاضي..!