الصادق الرزيقي

من وحي تجربة إسلامية


> تعيش تونس تحديات وصعوبات في مسيرة الدولة أقل بكثير من الذي يواجهه السودان، وليس لديها تعقيدات سياسية وأمنية واقتصادية التي نعيشها في بلدنا الذي يقاتل منذ العام 1955 في حروبات داخلية لم تنتهِ حتى اليوم، وتتعدد الكيانات السياسية التونسية على ذات نسق ونمط الأحزاب عندنا، فبعد الربيع العربي نشأت في تونس أحزاب كثيرة وانشطرت أحزاب من أمهاتها، وظهرت مسميات وأسماء لأحزاب تماثل ما لدينا، وبلغت في عددها تقريباً نفس العدد الموجود لدى مسجل الأحزاب السياسية والأحزاب التي تعمل علي طريقة الإخطار فقط، ولم تسجل نفسها بعد، مع هذا كله ربما يحتار كثير من الإسلاميين في بلدان العالم الإسلامي للخطوة التي أقدمت عليها حركة النهضة التونسية مؤخراً، بفصلها العمل السياسي عن العمل الدعوي، وانفتاحها على المجتمع وقبولها بالواقع السياسي الداخلي وتعاملها معه. > ويظن الكثير من المهتمين بالحركات الإسلامية، أن تونس تقدم تجربة أخري أو قُل نسخة إسلامية من الحداثة التي نشطت في هذا البلد العربي منذ أيام الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي وضع أقدام بلده على درب العلمانية المتطرفة، وكانت سبباً في نهوض وبروز التيار الإسلامي الحديث المناهض للإجراءات القسرية التي فرضها بورقيبة والتيار «المتغرب والمتفرنس» لعلمنة الشعب التونسي المسلم. > وكانت ردة الفعل قوية وواعية من الحركة الإسلامية التونسية التي استطاعت في وقت وجيز للغاية أن تتجذر وسط المجتمع وتسيطر على الشارع العام وتحقق الكثر من أهدافها وغاياتها، خاصة بعد ثورة الربيع العربي التي اقتلعت نظام زين العابدين بن علي، وألهمت بقية الشعوب العربية التي سارت على ذات السبيل، ولم تكن حركة النهضة طوال تاريخها بعيدة عن صدى الأفكار والمقاصد والمنهج الذي اعتمدته الحركة الإسلامية السودانية في الأربعين سنة الماضية، ولا يخفي الشيخ راشد الغنوسي تتلمذه على يد الشيخ الدكتور حسن الترابي الذي افترع طريقاً مختلفاً في التعامل مع التنظيم الدولي، ودعا إلى أن تتعامل وتنظر كل حركة وجماعة من جماعات الإخوان المسلمين إلى واقعها القطري وتقدر ظروفها وليس بالضرورة أن تحافظ على العلاقة العضوية مع التنظيم الأم في مصر أو ما يسمى اليوم اصطلاحاً بالتنظيم الدولي. > ما فعلته حركة النهضة اليوم في تونس، فعله الترابي والحركة الإسلامية السودانية قبل أكثر من ربع قرن في السودان. فما أن وصلت الحركة الإسلامية السودانية إلى السلطة بقيام ثورة الإنقاذ الوطني، حتى سارع الترابي إلى حل التنظيم والحركة وسعى إلى تكوين تنظيم سياسي بديل يتولى إدارة العمل السياسي والتعامل مع شؤون الدولة، حتى أشيع في ذلك الوقت أن الترابي جمع عدداً من كبار قادة الحركة الإسلامية، وأبلغهم برأيه وسلم كل منهم مصحفاً، في إشارة واضحة إلى فصل العمل الدعوي عن الشأن السياسي. > ما فعلته حركة النهضة التونسية بعد تجربتها في حكم الفترة الانتقالية في تونس ثم مشاركتها عقب الانتخابات الأخيرة وجاءت في المرتبة الثانية وتحالفت مع حزب نداء تونس، هي ذات المحصلة والرؤية التي طرحها الترابي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ولم تستطع الكثير من الحركات الإسلامية استعياب تلك النظرة المتقدمة للحركة الإسلامية السودانية، إلا بعد مضي سنوات طويلة عليها، فقراءة الواقع والمستقبل والاتعاظ بتجاربه ومساراته هي من أوجب واجبات القائد ومن ضرورات الحيزية والنضج للتنظيمات السياسية خاصة الفكرية منها.. > فالشيخ راشد الغنوشي وهو يقدم تنازلات كبيرة كما ظهر لبعض الناس والمشفقين عليه، ينطلق كما تقول كإدارات الحزب المهتمة بالجوانب الفكرية من فقه متعمق في علم الأصول، رأي، فاستحسن ونظر فقايس واقتبس، وظلت الرؤية الجديدة أو التجديدية للنهضة تناقش ويتم فيها قدح ذهني لفترة طويلة داخل مؤسسات الحركة وتم فيها نقاش مع مفكرين وعلماء وفقهاء وتم التشاور حولها وإرسالها إلى بعض قيادات التيارات الإسلامية النظيرة وأجريت عليها مراجعات ونقد ثم توكلت الحركة بعد أن عزمت على أمرها.. > اللافت أننا في السودان نعاني من واقع يستوجب التعامي فيه عن حقائق موضوعية يجب أن تدفعنا لإعمال الفكر والعقل، وتجديد المنهج والأفكار خاصة في ما يسمى بالسياسيات، والبحث عن حلول للتعايش والمساكنة بيننا والآخر في بلد بلغ فيه الخلاف السياسي إلى درجة حمل السلاح..


تعليق واحد