حسين خوجلي

أربعاء وعقاب شهر..!!


حين كانت قرى شرق الجزيرة بخير في منتصف الستينيات.. كان لكل قرية «بلدات» وسواق وشواديف ومُراح. وكان لكل قرية راعٍ لهذا المراح الممراح من أبناء البقارة من المسيرية أو الرزيقات..
شاب ترك الأهل وأتى لهذه الديار يحلم بمال أو بتجربة أو باستقرار كان كل واحد منهم يسكن في بيت قصي من القرية عنده «مزمار» وابريق من الشاي وغناء طويل مع الليالي المُقمرة.
الشاب الذي كان يرعى ويهتم بمراح «الشرفة» كان اسمه «أزرق»؛ شاب طويل قسيم صبوح ودود اللهجة كثير الصلاة.. ولأن والدتنا الحاجة «بنت الشريف» كانت تملك مُراحاً مُعتبراً فقد كانت تهتمُّ به وبضيوفه، وقد كنت أهتم بعالمه قبل أن أدخل المدرسة. كان «أزرق» هذا يدعو كل أسبوع كل رعاة القرى المحيطة بالشرفة يجتمعون أسبوعياً في بيت أزرق «المسيري» يشربون الشاي مثنى وثلاث ورباع وكان لهم ولع بالشعيرية باللبن وما أدراك ما الشعيرية باللبن في القرى!! إن طعمها مثل تعليق الأعرابي الذي دخل العمارات ورأى أطفالاً «ناصحين» يطلّون من الدور الثالث فصاح في براءة:«تلقى أكِلُن زلابية سااااي»!!.
كان «أزرق» يصرف على ضيوفه كلّ ما يصله من راتب وحوافز ومُدّخرات.. كانوا يغنّون أغنيات في غاية العذوبة والذوق:
القمر اللّجيت
يا السادة
وفوق النجوم ضوّيت
يا السادة
إنهم يتحدّون بالسادة هذه عادات الشلوخ القبيحة.. إنهم مثل عبد الرحمن الريح حين أطلق رائعته «ما شوّهوك بفصادة على الخديد السادة».
رغم أن الراحل على ميرغني أوقف العزف وصاح: «ما جمّلوك بفصادة على الخديد السادة» مُدافعاً عن شلوخه وشلوخ عبد الرحمن الوضيئة.
أسرّت لي الوالدة أن أتحدث مع أزرق ليقلّل من بذخه وصرفه وكرمه لأن أمامه مشوار العودة وفرح الأهل المنتظر.. لم أبالِ بمشاعر الرجل وألقيتها عليه مُقرعاً: لماذا تصرف كل راتب الشهر على هذه الدعوات الأسبوعية وعليك سفر طويل؟..
أطرق «أزرق» لدقائق حسبتها لن تنقضي وقال إنها دعوات للذكرى، ألم تسمع الأغنية الجديدة؟ قلت: لا، فبدأ يدندن برائعة أبي خليل:
«الذكرى الجميلة لو تعرف معناها لا الدنيا بتزيلا ولا آخره بتمحاها»
كانت الأغنيات يومذاك عطاءً نبيلاً في حركة الثقافة الجماهيرية. كانت كلمات كل أغنية أملاً وخطاباً للجميع وبرقية لكل القطاعاتو لذلك فإن أول مَغنَى حضرته لإبراهيم عوض بودنوباوي طلبت منه بإلحاح أن يغني «الذكرى الجميلة» فضحك وقال لي بابتسامته الشهيرة: «والله دي ما موقّعة» فاستبدلتها بأغنية «يا زمن وقّف شوية» أغنية التجاني سعيد المفضلة آنذاك!!.. ولو كان إبراهيم عوض يدري خطورة اعتذاره لوقّعها مع عربي والمزارع وبريس و
بدر التهامي وغنّاها بلا تردّد.. لأنها كانت تحكي حالة القرية السودانية حين كانت أكثر وسامة من الريف الانجليزي.. ولأنها كانت تمثل طفولتها غربة «أزرق» والمراح الممراح.. حين كان بيع اللبن عيب.. وحين كان الناس يأكلون حيثما حاصرهم الجوع..
الرعاة الآن لا يعرفون الذكرى الجميلة ولا الفرصة الجميلة ولا سيدتي الجميلة.. الرعاة لو سألتهم اليوم عن إبراهيم عوض لظنّوه أحد مُصدّري الماشية بسوق أم دفسو.
إن حالة «أزرق» تذكّرني بحالة صديقنا الزين «العيكورة» الفنان الذي أتى من مدني ليُجيز صوته بالإذاعة فقابله «عبد المحمود نور الدائم الكرنكي» مصادفة فجنّده لصالح حركة «الأخوان المسلمين» وجعله يغنّي لأحمد علي باكثير ولسيد قطب وإقبال وشطب من قاموسه الحلنقي ومحمد علي جبارة وتاج السر عباس.. ومنذ ذلك اليوم صار الزين يتحدث لغة أخرى.. وقد حكى لي أحد أصدقائه هذه الحكاية الطريفة.. قال إن الزين كان يقود عربته التاكسي من الخرطوم إلى أمدرمان والدنيا حَر «مبالغة» كما يقول أولاد أمدرمان.. التاكسي مليء بالركاب الخمسة وبعد دقائق من الحركة الوئيدة قال الزين في اطمئنان: «يا جماعة أي توتر في نفوسنا عائد لعدم إدراكنا بفلسفة التناغم والتوحّد التي تنتظم هذا الكون»، فإذا بالزين يُفاجأ بالركاب يطالبونه بالتوقّف القسري وهم يردّدون في ضجر: «هِنا من فضلك ولا خطوة. إنت سواق تاكسي ولا فيلسوف؟!!».


تعليق واحد