يوسف عبد المنان

“كادقلي” الآن


{ أيام وتمر الذكرى الخامسة المشؤومة لاندلاع الحرب في جبال النوبة بعد هدنة قصيرة ارتفعت فيها سقوفات الأحلام، وغردت عصافير السلام وجفت الدماء والدموع وبسطت الأفراح أشرعتها في الجبال والوديان والرمال.. لكن لعنة الحرب أطلت من جديد.. وشيطان الموت ركب الجميع.. وللدكتور “فرانسيس دينق مجوك” تفسيرات روائية واقعية للعنات بعض خلق الله.. مثل (لعنة اليوم) وهو طائر يتشاءم منه الناس.. مثلما كان العرب في قديم الزمان يتشاءمون من بعض النجوم والكواكب عند ظهورها.. وفي روايته (لعنة اليوم) التي تم تحريفها (لطائر الشؤم) نزولاً لرغبات الجمهوري د.”عبد الله أحمد النعيم” الذي ترجم الكتاب للعربية.. اعتبر “فرانسيس دينق” تغريد طائر اليوم بصوته الأجش في ليلة ظلماء في أخريات شهر مايو، بمثابة إعلان لأهوال ومصائب قادمة ستتساقط على رؤوس أهالي “أبيي”.
{ وإذا كانت للدينكا اعتقادات في الطبيعة فإن للنوبة أيضاً اعتقادات عن نذر الشؤم وحلول البلاء والمحن، وقيل إن كجور منطقة اللقوري قد مات قبل الحرب بأسبوع لكن أوصى قومه بالهجرة من المكان، لأنه رأى في المنان جيوشاً تقتل الأهالي ودماءً تفيض وتملأ خور “أم سردبة” حتى ماتت الأشجار ويبست.. وخلال السنوات الخمس الماضية تضاعفت معاناة الناس وضعفت همتهم رغم أن السلطات ظلت تقاوم بشاعة الواقع بقليل من الإشراقات والآمال.. في بدايات الحرب وقد توالت موجات النزوح شمالاً واللجوء جنوباً كانت للأغاني دورها في طمأنة الناس.. مع أصوات الرصاص و(الدانات) رفع بعض المواطنين شعار (الدانة ولا المهانة) وهو شعار التمسك بالأرض والموت فيها.. والتعايش مع الحرب بديلاً من (المهانة) في أطراف المدن كالخرطوم ومدني، حيث يتعرض النازحون في جبال النوبة لأسوأ أنواع المعاملات.. وتتصيدهم كشات النظام العام بافتراض مسبق وأحكام جائرة بأن هؤلاء مجرمون، ونساؤهم يحرمن من صناعة الشاي في الطرقات العامة بدعوى المحافظة على الأخلاق والقيم.
{ ساهم “جمال فرفور” و”عبد الرحمن عبد الله” و”عمر إحساس” و”البلابل” وقبلهم جميعهم ابن المنطقة د.”عبد القادر سالم” في طمأنة الناس، بأن الحياة لا تزال خضراء وكان المطربون يتغنون في إستاد “كادقلي” ليلاً مجاناً.. ويلعب فريق الهلال عصراً تحت زخات الرصاص ويحقق الانتصارات على فرق الخرطوم ومدني، وبقدر ما كان مولانا “أحمد هارون” بارعاً في تكتيكات ما بعد اتفاقية السلام.. كان ناجحاً في بث الأمل في النفوس.. وجاءت الآن أيام وسنوات الجنرال د.”عيسى آدم أبكر” الذي حقق حتى الآن نجاحاً مقدراً في ملفات شديدة التعقيد.. التقديرات التي جاءت بالجنرال شديد الاعتداد بنفسه وتجربته أن المنطقة شبعت في الولاة السياسيين، ولن تبقى على قيد الحياة إلا باختيار جنرال عسكري لحسم التمرد.. وأنفق الوالي د.”عيسى” جهداً كبيراً في عمليات الصيف الماضي.. ومن حسن حظوظ الرجل أن على قيادة الفرقة الرابعة عشر قائد موفق ومنتصر دائماً اللواء “ياسر العطاء”.. وفي جهاز الشرطة اللواء “عبد الرحمن سلاطين” وهو شخصية شديدة التهذيب وكفاءة نادرة في قوات الشرطة، وعلى قيادة جهاز الأمن العميد “عيسى أبكر”، هذا التناغم على الجبهة العسكرية جعل التمرد يحتضر الآن بفضل الضربات الموجعة التي تعرض لها.. والخسائر الفادحة التي لحقت به.. وقد اتسعت دائرة الأمن بما جعل حكومة الجنرال “عيسى” تفكر في زرع الأمل في النفوس بإقامة مهرجان للسياحة والغناء والرقص والتجارة في شهر أغسطس القادم.. في ولاية هي الأولى من حيث السياحة ولكن أقدارها ولعنة الحرب وضعتها في (مكان ما مكانها)!!
{ في الذكرى الخامسة لنشوب الحرب الحديث الآن عن السياحة والتسوق والجدل يثور عن الأسباب غير المنطقية، لعدم عودة الصينيين للعمل على الطريق الدائري، واقتصادياً نجحت إرادة حكومة الجنرال “عيسى أبكر” في استقطاب رؤوس أموال كبيرة مثل “وجدي” و”ميرغني” و”أمين عبد اللطيف”، لإعادة زراعة الأرض بدلاً من زراعة الموت الذي احترفته الحركة الشعبية، وجعلت من البندقية وسيلة تعبير وحيدة عن نفسها.. فهل يهزم الجنرال “عيسى” أتباع التمرد داخلياً بالسياحة، بعد هزيمة الجيش الشعبي في الميدان من خلال عمليات الصيف الذي انقضى.