منوعات

سيجارة الحسناء التي أشعلت ربيع العرب!


في اليوم الموعود، تقدمت الحسناء موكب المحتفلين ثم انتظرت إشارة الداهية، ما إن تلقفتها حتى أخرجت من جيب تنورتها سيجارة أشعلتها فأشعلت بها ذهول المتابعين وأضواء كاميرات الصحفيين بعين المكان، تلك الحقبة لم يكن بها لا مواقع تواصل ولا قنوات تلفزيون ورغم ذلك انتشر الخبر في أرجاء أمريكا كانتشار النار بالهشيم، نجحت خطة الداهية إدوارد برنايز ومعها كانت انطلاقة عهد جديد لتوجيه الرأي العام بل وصناعته، لكن كيف بدأت القصة وكيف وصلت شرارة هذه السيجارة للوطن العربي؟

بدأت القصة من صباح يوم هادئ من سنة 1928 حينما رن هاتف وكالة العلاقات العامة والإعلان التي يديرها إدوارد برنايز، المتصل كان رئيس أكبر شركة لصناعة السجائر في العالم “أميركان توباغو”، هذا الأخير عبر لبرنايز عن استيائه من خسارته لنصف السوق الأميركية، ذهل برنايز من الإعلان الغريب لهذا الملياردير، فالكل يعرف أن لا منافس لسجائره في السوق، بل إن كان من منتوج لا يفارق جيوب الأميركيين فهو بالتأكيد سجائره.

زالت علامات الاستغراب والذهول من وجه برنايز بعد أن أفصح له المتصل عن مغزى طلبه، فقد كانت الخسارة التي قصدها المتصل هي الغياب التام لإقبال النساء على استهلاك السجائر، هنا دون برنايز مهمته التي كلفه بها صاحب شركة السجائر العالمية، التي تتمثل في إيجاد طريقة لولوج “سوق السجائر النسوية” في بلد يعتبر فيه استهلاكها آنذاك من طرف الجنس اللطيف خطيئة كبرى.

هنا بدأ إدوارد برنايز في دراسة الموضوع من كل جوانبه، فإقناع الأميركيات بالتدخين ليس بالأمر الهين في مجتمع يعتبر الأمر في ذلك الحين حقيراً ودونياً، لكن برنايز لم يكن بصاحب وكالة إعلانات يطبع إعلانات ورقية سخيفة، بل هو شخصية فائقة الذكاء يعتمد على استخدام العلوم والدراسات الأكاديمية في جل أعماله، خصوصاً علم التحليل النفسي، فالرجل تأثر كثيراً بكتابات خاله الذي لم يكن سوى الفيلسوف الكبير ومؤسس علم التحليل النفسي سيجموند فرويد.

أول ما قام به برنايز هو الاتصال بأصدقائه، علماء التحليل النفسي، فالرجل الذي قد نبع من إرث خاله العلمي، يعرف جيداً أهمية التحليل النفسي في سبر أغوار المجتمع الأميركي وفهم المنطق الغريب وراء احتقار الأميركيات للتدخين، واقتصار استهلاكه على الرجال وبعض النساء من الطبقات الدونية. انتهت استشارة المحللين النفسيين إلى نتيجة علمية مفادها أن التدخين له مدلول جنسي في المجتمع الأميركي آنذاك، يحتقر المرأة وينتقص من صورتها؛ لذلك كانت أغلب النساء المدخنات حينها هن اللواتي يشتغلن بدور الدعارة ومحلات القمار، ما يجعل من مهمة إقناع نساء الطبقتين الوسطى والغنية أمراً صعب المنال.

هنا بدأت المرحلة العملية لتنزيل الاستراتيجية التسويقية للداهية برنايز، فقد فهم أخيراً المغزى وراء رفض النساء لفكرة التدخين، وعلم كيف سيجعل صاحب أميركان توباغو يربح نصف السوق كما طلب، فكانت خطته تعتمد على جعل النساء يفتخرن بالتدخين، ويعتبرنه إنجازاً بدل أن يكون عيباً وسبة، وقد استلهم فكرته من دعوات المساواة بين المرأة والرجل في حق التصويت، التي كانت تجتاح أوروبا آنذاك، فكي ينجح في جعل المرأة الأميركية الميسورة الحال تدخن بافتخار اهتدى إلى فكرة تحويل قضية التدخين الى رمز للمساواة والتحضر، وسمى العملية “سجائر الحرية”.

ولكي تنجح خطة برنايز اختار احتفالية عيد الفصح؛ حيث يقام كل عام بالعاصمة موكب احتفالي ضخم يتحلق حوله الأميركيون وتتصدر أخباره جل الجرائد والملصقات، ولهذا الغرض استعان بحسناوات من الطبقة المخملية، بهندام لائق ومعبر عن مستواهن الاجتماعي، ووزع عليهن السجائر واتفق معهن على إخراجها وتدخينها أمام الملأ عند إشارته، وفي المقابل أغرى الصحفيين ووعدهم بسبق صحفي لحدث تاريخي سيقع خلال الاحتفالات فكانوا في الموعد.

هكذا بدأت قصة تدخين النساء في أميركا ومن ثم بقية العالم، لكن القصة الحقيقية التي أعلنت بدايتها سيجارة برنايز هي بزوغ علم التسويق السياسي وتوجيه الجماهير، وقد أثبتت تجربته مسألتين في غاية الخطورة، أولاهما دور العلاقات العامة والشخصيات الرمزية في التأثير على الرأي العام، والمسألة الثانية وهي الأهم هي أننا في هذا العالم نقع تحت رحمة علماء النفس والتحليل النفسي والسلوكي، وبالعودة إلى العقل المدبر لتجربة السيجارة الناعمة، إدوارد برنايز، فقد ترك خلفه تركة كبيرة في ما يخص العلاقات العامة وتوجيه الرأي العام، أحد أهم كتاباته مؤلفه المعنون “بروباغاندا”، يكفي لتعرف خطورته أنه أحد أهم المراجع التي اعتمدها جوبلز وزير إعلام هتلر وصانع سياسته التسويقية في حشد الألمانيين وجعلهم يهتفون بحياة الزعيم النازي.

اليوم وفي عصرنا الحالي، حيث التكنولوجيا المعلوماتية حولت حياتنا إلى مجتمعات افتراضية، نقضي معظم أوقاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي، صارت مهمة التحليل السلوكي والنفسي للمجتمعات أسهل وبنتائج أكثر دقة، وبالتالي فتوجيه الرأي العام لأي مجتمع صار أسهل من إشعال السيجارة الناعمة.

وأنا الذي لا أومن بتاتاً بنظرية المؤامرة التي يهيم في عشقها معظم العرب، لن أشك إطلاقاً في النظرية التي تقول إن ما يسمى الربيع العربي لم يكن سوى عملية علاقات عامة وتوجيه للرأي العام لعبت فيه مواقع التواصل الاجتماعي دوراً حاسماً، فلم تكن هناك صحوة أو تغيير أو نهضة من أي نوع بل كانت موجة توجيه للرأي العام ركب عليها أغلب الفاعلين السياسيين، حتى إني أتذكر سخرية بعض العرب من حالة التغيير المفاجئة بداية 2011، فوصف بعض المعلقين الأمر بسحابة حشيش عابرة من فوق سماء الخريطة العربية! لأسترجع قصة الحسناء والسيجارة.

huffpostarabi