مصطفى أبو العزائم

“مايو”.. قبل نهاية الشهر..!


“مايو”.. شهر الصيف الخانق، والشمس التي تكاد تصل إلى ما فوق الرؤوس بقليل.. هو شهر لا يعرف التقلبات إلا قليلاً لأن الناس تهرب فيه إلى بيوتها، يستظلون بالأسقف البلدية في غرفهم الطينية حيث مقام الأكثرية التي ما عرفت غابات الأسمنت قبيل خروج المستعمر أو بعد الاستقلال، لكن “مايو” الذي جاء ضمن رزنامة العام الميلادي 1969م، كان شهراً مختلفاً عما سواه، فقد حمل معه جماعة عسكرية جاءت على ظهور الدبابات والمدرعات لتذيع البيان الأول باسم العقيد أركان حرب “جعفر محمد النميري” نعى فيه نظام الحكم الذي سبقه، وأودع رموزه السجون والمعتقلات، وتلونت مقاعد الحكم الجديد باللون الأحمر، وشعر قادة الطوائف والأحزاب السياسية أن موجة الانتقام قادمة.. فتهيأوا لذلك حماية للذات، لكن “مايو” الذي راج مع الأناشيد الثورية أنه (سيف الفدا المسلول) أخذ بالفعل يشق خصومه (عرض وطول) فكانت أحداث “ود نوباوي” بأم درمان ومن بعدها أحداث “الجزيرة أبا”، التي كانت هي البداية لتكوين أخطر الجبهات السياسية في السودان، وهي (الجبهة الوطنية) التي جمعت الأحزاب التي أطاحت بها الحركة الانقلابية، وأدت شمولية النظام القابضة إلى عنق دامٍ لم تبرره هشاشة النظام التعددي الذي قاد للفوضى، والقفز على الدستور وتفسير مواده وفق هوى الساسة، وكانت للشارع السوداني مواقفه التي تعبر عنه خاصة بعد تنامي الوعي وزيادة فرص التعليم التي جاءت تطوراً طبيعياً اقترن بتطور المجتمع السوداني ونموه، رغم أن ذلك النمو ما كان في مستوى تطلعات المواطنين.
قبيل مايو 1969م، وفي آخر أيام الديمقراطية الثانية، ضربت الفوضى أركان النظام القائم وحدثت الخلافات داخل الحكومة الائتلافية، واتجه الشريف “حسين الهندي” إلى قيادة جناح للانفراد بالحكم، بينما عرض عليه “الميرغني” أن يكون نائباً لرئيس الوزراء، وكان حزب الأمة ينادي بفض الائتلاف، ونادى موظفو الحكومة المحلية بالإضراب بعد فشل اجتماعهم بالوزير ومنعهم من تسيير موكب احتجاجي.. وكان الرئيس “إسماعيل الأزهري” رئيس مجلس السيادة بصدد زيارة إلى “مايرنو” صبيحة الخامس والعشرين من مايو 1969م، وبرفقته وزير الداخلية “حسن عوض الله” و”الرشيد الطاهر بكر” وزير الأشغال والعدل، إلى جانب عدد كبير من المسؤولين بإدارة الجنسية والجوازات، بينما سبق ذلك الوفد السيد الإمام “الهادي المهدي” إلى الجزيرة أبا للقيام برحلة عمل إلى دارفور يزور من ضمنها “تلس” حيث نظارة الفلاتة، وقد خلقت تلك الرحلات منافسة حزبية مبكرة في الحملة الانتخابية لرئاسة الجمهورية قبل إجازة الدستور في مرحلة القراءة الثالثة والأخيرة، وما يتبع ذلك من خطوات تتمثل في إجازته من قبل مجلس الوزراء ومن ثم اعتماده من مجلس السيادة لتصدر القوانين المصاحبة له.
في تلك الأجواء السياسية المشحونة، وفي صبيحة الأحد 25 مايو 1969م توقفت الإذاعة عن بث برامجها المعتادة، وأخذت تبث المارشات العسكرية، بينما المذيع ينوه بين الحين والآخر إلى أن العقيد “جعفر محمد نميري” سيذيع بياناً مهماً بعد قليل.. وكان ذلك إيذاناً بأن انقلاباً عسكرياً قد وقع وأن مجموعة من الضباط قد استولوا على السلطة في البلاد.
عندما أذاع العقيد “جعفر محمد نميري” بيانه الأول بصفته رئيساً لمجلس قيادة الثورة أشار فيه إلى أن (بلادنا) الحبيبة لم تنعم باستقرار منذ الاستقلال بسبب عوامل الفساد الحزبي الذي حول الحكومات المتعاقبة إلى مسخ قبيح، وظل السودان يسير إلى الوراء لأن الأحزاب التي تحكمت فيه عجزت عن إدراك معنى ومفهوم الاستقلال الذي لم يخرج في نظرها عن كونه علماً ونشيداً وشعارات ومؤتمرات دون اعتبار لمصالح الشعب.
وجاءت في البيان الطويل اتهامات صريحة للأحزاب بالفساد وتسلم أموال (المستعمر) وأعوانه لتصفية ثورة أكتوبر 1964م، وإسكات شعاراتها، مع الإشارة إلى عجز الحكومات الحزبية عن حل مشكلة الجنوب، وإهمال التنمية مع تشجيع الهجرة إلى المدن، وتحويل النقابات من حركة شعبية إلى أجهزة حزبية وتناسي العطالة، وانفراط الأمن.
بيان العقيد “جعفر محمد نميري” طلب من المواطنين الكرام الانصراف إلى أعمالهم كالمعتاد مع الانتباه واليقظة لأعمال تخريب محتملة من قادة الأحزاب وأعوانهم من المنتفعين بالعهد (البائد)، وتوعد بضرب كل من تسول له نفسه الوقوف أمام تيار التغيير الجارف بيد من حديد.. مع طمأنة الأجانب أن الثورة ساهرة على أرواحهم ومصالحهم وممتلكاتهم.
وتم الإعلان عن تكوين مجلس قيادة الثورة الذي ضم اللواء أركان حرب “جعفر نميري”– تم ترفيعه إلى لواء– رئيساً وعضوية كل من الرائد “فاروق عثمان حمد الله” والرائد “خالد حسن عباس” والرائد “مأمون عوض أبو زيد” والرائد “أبو القاسم محمد إبراهيم” والرائد “أبو القاسم هاشم” والرائد “زين العابدين محمد أحمد عبد القادر” والمقدم “بابكر النور” والرائد “هاشم العطا”– كان ملحقاً عسكرياً في سفارة السودان ببون– والسيد “بابكر عوض الله” رئيس مجلس الوزراء بحكم منصبه، عضواً مستديماً في مجلس قيادة الثورة.
وتم تشكيل أول حكومة في عهد مايو ضمت (21) وزيراً أضيف لها بعد أيام اسم الدكتور “منصور خالد” الذي عين وزيراً للشباب والرياضة، بينما تقلد عدد من اليساريين مناصب وزارية داخل المجلس الجديد، من بينهم “جوزيف قرنق” و”محجوب عثمان” و”مرتضى أحمد إبراهيم” و”عبد الكريم ميرغني” و”فاروق أبو عيسى” وغيرهم، وهو ما كشف بوضوح عن لون وتوجه النظام الجديد الذي ضم في عضوية مجلسه الثوري الأعلى كلاً من “فاروق حمد الله” و”هاشم العطا” و”بابكر النور سوار الذهب” وأحال عدداً من قيادات الجيش للمعاش اعتباراً من الأحد 25 مايو 1969م، من بينهم الفريق “الخواض محمد أحمد” واللواء (أ.ح) “حمد النيل ضيف الله” واللواء “محمد إدريس عبد الله” واللواء “أحمد الشريف الحبيب” واللواء “إبراهيم أحمد عمر” وعدد من العمداء من بينهم “محمد فضل المولى التوم” و”عثمان حسين” و”محمد أحمد أبو دقن” و”علي حسين شرفي” و”عمر الحاج موسى”.
وصدر قرار بإعفاء السيد “محمود بخاري” مدير عام البوليس، وتعيين السيد “علي صديق” بدلاً عنه في أول أيام الانقلاب.