مقالات متنوعة

د. جاسم المطوع : لا تجعل الناس سببا لحزنك وسعادتك


من الطرائف المشهورة، أن أمرأة كانت تشاهد من نافذة غرفتها “وسخ” الملابس المعلقة بشرفة الجيران، وتنتقد عدم اهتمامهم بنظافة ملابسهم، فقام زوجها بتنظيف زجاج النافذة، فاكتشفت أن “الوسخ” على زجاج النافذة وليس على ملابس الجيران المعلقة، فكم من اتهام نتهم به الناس ولو دققنا أكثر لاكتشفنا أن الخطأ فينا وليس في الآخرين، كما أننا في كثير من الأحيان نتوقع أن الناس يعطوننا السعادة أو هم سبب حزننا، بينما لو تأملنا أكثر لوجدنا أن ذواتنا هي سبب سعادتنا وحزننا وليس الناس.

ولهذا، هناك أمثلة كثيرة تؤكد هذا المعنى، مثل “من راقب الناس مات هما”، أو “رضا الناس غاية لا تدرك”، وهذه كلمة للشافعي -رحمه الله- ولها تكملة، هي “فعليك بما يصلحك فالزمه فإنه لا سبيل إلى رضاهم”، ولهذا قيل “رضا الناس غاية لا تدرك ورضا الله غاية لا تترك”، فمما يساعد الإنسان على سعادته في الدنيا والآخرة أن يكون له منظومة قيمية يعمل من خلالها، سواء وافق عليها الناس أو رفضوها، فالمهم أن يعمل بما يرضي رب الناس وليس الناس، ولا يحزن إذا شعر بحزن الناس عليه أو تغير نظرتهم له طالما أنه واثق من صدق واستقامة وصحة ما يفعل، فالناس لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب، كما يقال.

ولعل من القصص الشهيرة قصة جحا مع ابنه عندما ركبا الحمار ومشيا في السوق، فسمع الناس يقولون انظروا إلى جحا كم هو ظالم لأنه يركب مع ابنه فوق الحمار والحمار يلهث من التعب، فنزل جحا من على الحمار وترك ابنه فوقه، فسمع الناس يقولون كم هذا الابن عاق لوالده ولا يحترمه لأنه فوق الحمار وترك والده يمشي على رجليه، فجعل جحا ابنه يمشي على الأرض وركب هو فوق الحمار، فسمع الناس يقولون كم هذا الأب قاس وظالم لا يقدّر تعب ابنه ومشقته، فحمل جحا الحمار على ظهره ليتخلص من كلام الناس وليحقق رضاهم، فصار الناس يقولون انظروا إلى جحا اشترى الحمار ليكون له حمارا!

بغض النظر عن صدق القصة، فإنها تصف حال الناس في الحديث عن الناس، وقد حاول جحا في كل مرة أن يحقق رضا الناس، ولكن كما قيل رضا الناس غاية لا تدرك، وحتى رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، على الرغم من اختيار الله له من أشرف النسب وأفضل الخلق، فإن بعض الناس من حوله لم يرضوا به، وكان رسولنا الكريم يحزن على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، فقال تعالى “فلا تذهب نفسك عليهم حسرات”، أي لا تهلك نفسك وتحزن من أجل الناس طالما أنهم اتخذوا قرارا بعدم اتباع الهدى، لأن ما على الرسول إلا البلاغ، وفي آية أخرى كذلك نبه الله الرسول، صلى الله عليه وسلم، ألا يهلك نفسه من أجل الناس، وإنما يؤدي ما عليه فقط، فقال تعالى “فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا”، أي لا تهلك نفسك من أجل رفضهم للإيمان، لأن الله جعل الدنيا دار اختبار وليس دار متاع، فقال تعالى “إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا”، فكل إنسان يتحمل قراره، والله يحاسب الجميع.

فالرؤية صارت واضحة عند رسولنا الكريم، ولهذا أخبرنا بأنه لابد أن نحدد الرؤية ونعرف من نسعى لتحقيق رضاه، فقال”من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس”، ومن وكله الله إلى الناس عاش حزينا وفقيرا ومكتئبا وقلقا ومتوترا، وقد قامت فلسفة كاملة وهي الوجودية لسارتر على شعار “الآخرون هم الجحيم”، وألغى كل القيم التي يؤمن به الناس، ولكن الإسلام علمنا أننا نحترم الناس ونقدرهم ونراعى مبادئهم، ولكن في الوقت نفسه لا نجعلهم معيارا لعملنا ولسلوكنا، ولا نسعى لتحقيق رضاهم، فكم من أسرة هدمت بسبب طلب رضا أبنائها لا رضا الله.. فلنتأمل.