تحقيقات وتقارير

الأسطورة لا تموت.. هبط محمد علي كلاي الخرطوم بصحبة السلطان كيجاب وغسل وجهه الأسمر في مياه النيل وشرب (المهيوبة) مع حيران الخلاوي .. أسرار وخفايا الزيارة النادرة


ستكون تلك أخر لحظة في حياته، قبل أن يوسد رأسه التراب، يصلب محمد علي كلاي قامته الشاهقة، ويرسل نظراته المرتعشة صوب صديقه كاري أندرود، حيث يشارك للمرة الأخيرة في حفل لجمع تبرعات مركز علاج الباركنسون، مرضه المزن والموسوم بـ”الشلل الرعاش”، بعدها بشهر أو بأسابيع قليلة سوف يغمض أسطورة الملاكمة الشهير عينيه للأبد، ليذكر بحياته شديدة اللمعان، كيف عاش طويلاً يقاوم المرض الذي أصيب به منذ ثلاثة عقود؟ لكنه أبداً، لن يضطر أن يبلغ المتحدث بإسمه (بوب غونيل) أنه ذاهب دون عودة، حتى لا يجزع منافسه السابق فورمان ويغرد على تويتر ” لقد ذهب جزء مني .. أغلى جزء ” .. يسترجع العالم أشهر ضرباته في حلبة الملاكمة، ويسترجع السودانيون _على نحو خاص_ بطلهم الشامخ كلاي، والذي هبط في الخرطوم مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وغسل وجهه الأسمر في مياه النيل .
الرجل الملهم
إن لم تكن تحب الملاكمة، بالضرورة سوف تحب محمد علي كلاي، وستغرم به، لا كبطل يفل ساعده الحديد، ويهوى تحت لكماته أقوى الرجال، وإنما كمُلهِم للآلاف في العالم، فهو بخلاف حياته المتخمة بالمآثر، كان يرمي ليظهر كينونته كبطل أفريقي، ويحاول أن ينتصر لأمته المقهورة أولاً، وفي ذروة شهرته تلك لم يمنعه صخب البطولة أن يسفر عن إنسان محب للحياة، ومبشر بقيم أجل وروح مسالمة، تارة يناصر قومه وينهض بأحقيتهم في المواطنة الأمريكية، وتارة ينسل ليبذل نبل رسالته لكل الناس، وما أبكاه أكثر من مقتل مالكولم إكس بدم بارد، سوى الظلم المرسل بعناية، إنه بطل أيضاً حينما واجه المرض بصبر وتجلد، وسد الباب في وجه انتصاراته المتتالية، وأقعده عن لعبته المفضلة، يبقى من تلك المواقف كلماته الخالدة، وتجاربه عظيمة الأثر، ومما يحفظ له أنه حينما سئل عامئذٍ كيف يريد أن يتذكره العالم؟ أجاب كلاي : “كرجل لم يبع الناس يوماً..ولا يُضرّ أن يتذكروني كملاكم جيّد” .
عاش بطلاً
تقول سيرته المبذولة في الأسافير أن كلاي ولد باسم كاسيوس، قبل أن يغير اسمه إلى علي بعد اعتناقه الإسلام في سنة 1975. ونجاحه على الحلبة جعل منه أيقونة مائزة، واشتهر بسرعة اللكمات وإيقاع خصومه بالضربة القاضية، وقد حصل على أول ألقابه العالمية عام 1964، وفاز خلال مسيرته بما إجماليه 56 مباراة منها 37 بالضربة القاضية، ولم يخسر في حياته سوى خمس مباريات. وتوج بلقب أفضل رياضي في القرن العشرين عام ،1999 وعاش بطلا حتى أخر ساعاته في يوم الجمعة الحزينة .
رجل مثير للجدل
لكن حياته المتقلبة وشهرته أيضاً جعلته في السطح البارز دوماً، مثل كل الرجال المثيرين للجدل، خصوصاً اعتناقه الإسلام وسط مجتمع مسيحي متزمت، بل لا يعترف بحق الآخر الأفريقي في الحياة كآخر، كما أن عناده ورفضه المشاركة في حرب فيتنام، وضعه في مواجهة غير متكافئة مع الحكومة الأمريكية، انتهت بحرمانه من كل ألقابه التي حاز عليها، مما قض مضجع البيت الأبيض، فلجأ إلى تجريمه، وأودعوه السجن، وبدأت معركة قانونية أخرى، انتصر فيها كلاي وعاد إلى الحلبة ليواصل حصاد البطولات، بعد سنوات أدركت أمريكا كيف أن بطلها الحقيقي على حق، وأنها تورطت في حرب عبثية، وخسرت صورتها الناصعة كبلد قيم على الحرية والسلام .
كيجاب في الصورة
يجدر الإشارة إلى أن علاقته بالسودان بدأت أثناء إبداء رغبته زيارة أرض المليون ميل مربع، وكانت تربطه صداقة بالسلطان كيجاب، سوف يحدثنا عنها لاحقاً، المهم الأن أن خبر رحيله أثار حالة من الحزن وسط السودانيين يصعب كتمانها، ومما حملته الأخبار جزع أهالي قرية (سعادة العقليين) بولاية الجزيرة لنبأ وفاة أسطورة الملاكمة العالمية محمد علي كلاي، واجتهدوا في الدعاء له بالرحمة والمغفرة وتنادوا لأداء صلاة الغائب، وفاءً لرابطة قديمة جمعته بهم، كان ذلك إثر زيارة خصهم بها الرجل في العام 1988م، وكان هبط منطقة الصناعات بولاية الجزيرة في منتصف نوفمبر من ذلك العام المذكور، وكان برفقة المشير عبد الرحمن سوار الدهب، وبدعوة من أعضاء منظمة الدعوة الإسلامية، في ذلك اليوم المشهود امتلأت الشوارع بالناس لاستقبال الأسطورة كلاي، النساء والرجال والأطفال، وكان لافتاً إصغاء الرجل لأناشيد الطلاب والمدائح الدينية، وتوقف للتزود من طعاهم، والتقاط الصور الحميمية، ولذا نشأة علاقة رحبة بينهم وكلاي، يسترجعونها الآن بين يدي الرحيل الحزين، ويطالبون بإقامة صلاة الغائب لروحه .
اللقاء الأول
يحكي السلطان كيجاب في أحد حوارته تطور علاقته بالأسطورة كلاي وخفايا زيارته للسودان، يقول إنه التقاه للمرة الأولى في كندا، وبالتحديد في مطلع العام 1971 بفندق (البن بنشر) وعرفه بنفسه، وأنه سوداني مسلم، والتقى به للمرة الثانية عندما جاء محمد للترويج لشركة التايوتا بالمملكة العربية السعودية، والتي كان كيجاب محترفاً بها في نادي النصر وكان أن ذهب إليه في مدينة جدة وطلب منه زيارة السودان فقال كلاي : لا مانع لدي في زيارتكم.. شرطاً أن تبعثوا لي بدعوة رسمية، وبعدها ذهب السلطان كيجاب إلى الخرطوم، قاصداً مكتب اللواء الخير عبدالجليل وزير الدولة بالقصر الجمهوري آنذاك وقال له إن الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي سوف يأتي للسودان، ولم يجد غير الترحيب، وتم تجديد الطلب في العام 1984م بالترتيب مع سفير السودان في واشنطون، حيث تمت دعوة كلاي بإسم المؤتمر الإسلامي، وهبطت طائرته في مطار الخرطوم عبر خطوط الطيران السويسرية عصرئذٍ، وطلب كيجاب من حمدي بدرالدين مدير التلفزيون أن يقطع المسلسل المصري ويبث استقبال محمد علي كلاي في مطار الخرطوم، بجانب مباراة خاصة بضيف البلاد، بعدها شقت سيارة الملاكم الأشهر طريقها بصعوبة وسط الجموع واستقرت بفندق الضيافة بالخرطوم بحري جناح الرؤساء.
الملاكم والمجاهد
يقول كيجاب ” في صباح اليوم التالي توجهت إلي القصر الجمهوري الذي شاهدني فيه الرئيس الراحل النميري وكان أن قابلته فسألني كيف استطعت إقناع كلاي بزيارة السودان؟ فشرحت له قصتي معه منذ البداية وما أن انتهيت إلا وأمر بعربات تحمل لوحة رئاسة الجمهورية بحرسها أي أنه يتحرك في موكب رسمي” .. وظل ذلك الموكب يتنقل بضيف البلاد لخمسة عشر يوما، زار خلالها قبة الإمام محمد احمد المهدي، التي أراد أن يقف قبالها، ويسلم على روح الثائر والمجاهد المهدي الإمام، فهو يعني له الكثير، وانتصارته على البيض في الذاكرة، كما أن كليهما في حالة جهاد، ومن ثم التقي بالإمام أحمد عبدالرحمن المهدي في موكب كبير أهدى له على أثره الإمام احمد المهدي سيفاً من السيوف الموجودة بقبة المهدي للملاكم الأمريكي محمد علي كلاي، وزار أيضاً الشيخ يوسف ود بدر بمنطقة أم ضواً بان والشيخ عبدالباقي .
كلاي يشرب المهيوبة
يتذكر الكاتب الصحفي والإعلامي أبو عبيدة البقاري تلك اللحظات المهيبة ويقول لـ”اليوم التالي” إنها لحظات لا تنسي، وقد احتفى به السودانيين _ يقصد كلاي_ وترك هو ذكرى طيبة، وأكثر ما لفت نظر البقاري بساطة كلاي، وإسلامه الحقيقي، حيث جلس مع طلاب الخلاوي وقرأ من المصحف المكتوب بخط اليد في (أم ضواً بان) وشرب مع الحيران (المهيوبة) وكان سعيداً وفرحاً بتلك الأجواء، مرة أخرى التقاه البقاري في أمريكا أثناء أولمبياد العام (1996) ومما أدهشه وأدهش العالم ظهور كلاي وهو يحمل شعلة الأولمبياد بيد مرتعشة، حيث اثار عاطفة الناس في شتى أنحاء العالم، وقد ذهب إليه بعدها في فندق ماريوت والتقط معه الصور وعرفه بنفسه، ووجده يتذكر كل تفاصيل زيارته للسودان بشجن غامر، ويحمل الحب للسودانيين .
في لقطة أخرى أيضاً يظهر المصور الصحفي الشهير عباس عزت وهو يحاول أن يلكم كلاي في ضربة خطافية، عزت قال أن تلك الصورة كانت أثناء زيارة كلاي للسعودية بدعوة من رابطة العالم الإسلامي في العام 1986 تقريباً، لكنها لقطة لا يمكن أن تنسى، رحل كلاي وترك خلفه سيرة مترعة بالمواقف والحكاوي، وموته ليس أقل من موت أسطورة، إذ أن الأسطورة لا تموت.

اليوم التالي