رأي ومقالات

الترابي.. حياة الأفكار 12


السياسة نوع من الجهاد ويحب البعض أن يسميها الجهاد المدنى فى مقابل الجهاد العسكرى أو الثورى. والجهاد لدى دكتور الترابى إن أطلقت المفردة على العموم تشمل كل إستفراغ للوسع لتحقيق المراد الإلهى . وقد سبق أبن تيمية إلى ذات المعنى عندما قال هو بذل الجهد لتحقيق محبوب الرب ، أى الأمر المحبوب المراد من الرب. والترابى يراه على ثلاثة مستويات . فالأول مستوى التعرف على المراد الإلهى ببذل غاية الوسع الذهنى والعقلى لمعرفة ذلك المراد ، إن لم يكن من المنصوص نصاً. والنص فى مصطلح أهل الأصول هو (اللفظ الكاشف لمعناه الذي يفهم المراد به من غير احتمال بل من نفس اللفظ ) وهوبذلك يقف فى مقابل الموؤل .والتأويل هو الباب الأوسع للفهم وللفقه ، وما الفقه إلا تأويل الفهم الصحيح لتعاليم الدين وأحكامه. والإجتهاد فى معناه الأوسع هو العبارات الموؤلة ليُدرك مراد الشارع منها.وهو عمل عقلى محض ، مهما سمى من أسماء سواء سُمى قياسا أو استصلاحا أو استصحابا أو استنباطا بالرأى . ولا يكون مستحقا للوصف بالإجتهاد ما لم يُستفرغ الوسع فى طلب المراد الإلهى . ثم الصعيد الثانى للجهاد فإنما يكون على مستوى إستقامة النفس على ما علمت من الحق وهو المجاهدة أى مجاهدة النفس على الإستقامة وهو الجهاد الأكبر. وأما المستوى الثالث فهو جهاد الدعوة الى الحق لتكون كلمة الله هى العليا .
الجهاد الأكبر والجهاد الأفضل :
وأما الجهاد الأكبر فهو جهاد النفس على الإستقامة والحديث الوراد فى ذلك رواه البيهقى ومعناه له شواهد فى أحاديث أخرى . ومتنه يقول: (رجعنا من الجهاد الأصغر ، إلي الجهاد الأكبر)وقد نقله الغزالى فى الإحياء و قال الحافظ العراقي في تحقيق أحاديث الإحياء ، نقله عنه العجلوني في كشف الخفاء ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : هو كلام إبراهيم بن أبي عبلة وليس بحديث ،ونقله أيضا العجلوني عن الحافظ في الكشف ، وهذا ملخص ما ذكره العجلوني وفي رواية البيهقي : (قالوا : وما الجهاد الأكبر؟ قال : جهاد القلب) ، ورواه الخطيب البغدادي بلفظ : (رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر ، قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه) ، وقد روياه جميعا عن جابر .وليس هنالك معضلة فى التوفيق بين الحديث وأحاديث كثيرة عن فضل القتال فى سبيل الله وأنه ذروة سنام الجهاد . وكذلك حديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. فالأفضلية لا تناقض الأكبرية . وجهاد النفس لا يتوقف ساعة القتال بل أشد ما تحتاج اليه النفس هو وقت القتال لتُقدم ولا تنكص وأقرأ إن شئت أبيات عبد الله بن ابى رواحة وهو يجاهد نفسه للإقدام فى غزوة مؤتة :
أقسمت يا نفس لتنزلن
لتنزلن أو لتكرهن
قد أجلب الناس
وشدوا الرنة
مالى إراك
تكرهين الجنة
فالجهاد جهاد النفس هو الجهاد المستمر، وهو الجهاد الأكبر يحتاجه المرء إذ يُجهد عقله فى طلب الحق ويحتاجه فلا يتبع الهوى . ويحتاجه وهو يجهد إرادته للإستقامة على الحق . ويحتاجه وهو يحمل نفسه على الصبر على نوائب الحق وإن هلك دون ذلك ، إذ يُقاتل فيقتل أو يُقتل ليكون مراد الله هو الحق الظاهر ، ولتكون كلمته هى العليا . والجهاد بمعنى القتال له وجهان، جهاد الدفع وجهاد الطلب .وأما جهاد الدفع ففرض عين على كل قادر إذا دهم العدو الديار . فهو جهاد رد العدوان ولا يمارى أحد أنه فرض واجب ، وأما جهاد الطلب ففرض كفاية . ونعنى به جهاد العدو المتربص الذى يسوم المسلمين و المستضعفين بين ظهرانيه خسفاً وظلما . وواجب المسلمين حينئذ نصرة المسلمين والمستضعفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يستطيعون سبيلاً . ولايجوز للمسلمين العدوان على غيرهم بحجة محاربة الكفر ، فليس الدين بالإكراه . وإنما يجوز جهاد الطلب لرفع الظلم و العدوان على المسلمين والمستضعفين . ولئن كانت الأمم المتحدة قد شرعت التدخل العسكرى بحجة حماية المستضعفين من المدنيين ، وأتخذت ذلك حجة للتدخل فى شؤون الدول الأخرى ، فإن واجب النصرة يجيز للمسلمين بل يوجب عليهم النصرة على وجه الكفاية وحين الاستطاعة وأن يهبوا لغوث المستضعفين المضطهدين من المسلمين وغيرهم. وللقتال فى سبيل الله وجه آخر هو قتال البغاة والمفسدين فى الارض سواء كانوا مسلمين اوغير مسلمين.فالجهاد هو جهادٌ لإعلاء كلمة الله وحكمه وهديه فى كل حال ، سواء كان جهداً يُستفرغ أو كلمة حقٍ تُقال فى وجه جبار أو قتالٌ لرد العدوان أو نصرة المستضعف. فالجهاد الأكبر عند الترابى لا يتوقف ، والأصغر إنما هو شوط يُقطع لنصرة الحق(و بعد الجهاد يرجع المؤمنون منتصرين على الظلم ليبسطوا في حياتهم كل هذه المعاني التي لم يحموا النظام الإسلامي الذي كان يجمعها و حسب بل عززوها بالجهاد الذي زكاها في نفوسهم بهديه و مراسه المتكامل . فالقتال إن لم يكن جهاداً في سبيل الله أو كان جهاداً لا يتكامل رشده يصبح ممارسة للقوة الفاتنة و تثمر علاقاته تعزيزاً لمنهج التعويل على تطويع التبّع بظاهر الإمارة دون باطن إيمان و تسييرهم كرهاً و ضبطاً بالعادة لا طوعاً لله و توكلاً عليه و يؤول جهدهم مسخراً لتأمين مكانة ذوي القوة و إرادتهم نظاماً قهرياً لا خشوعاً لتحكيم شرائع الله تشاوراً و تناصحاً ، و مستغلاً لاحتكار المال سلباً و غنيمة و دولة بين الأقوياء الأغنياء لا سواء و عدلاً بين الناس ، و مستخدماً للتمكين في الأرض بطشاً بالناس و بغياً لا في سبيل الله رحمة و عدلاً ) والترابى يرى أن الأصل هو المسالمة والموادعة ولا يحل قتال العدوان ، ولا القتال لنشر الدعوة بالقوة . فالدعوة لا تُنصر إلا بالكلمة القوية المبينة . ويتوافق الدكتور الترابى مع الإمام أبن قيم الجوزية الذى يفسر قوله تعالى (يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ) يقول أبن القيم جهاد المنافقين جهاد الكلمة.ولم يقاتل النبى صلى الله عليه وسلم المنافقين ولم يقتلهم ، وهو أعرف الناس بهم .فالاصل هو السلام وواجب الناس أن يدخلوا فى السلم كافة . والاسلام هو سبيل السلام للبشرية جمعاء إلا من أعتدى . والترابى يرى أن فقه الجهاد هو فقه واقع، وقد كانت البشرية فيما مضى ديدنها العدوان والغلبة . وهى اليوم ترفع شعارات السلم والمسالمة وإن لم تف بحقها . والمسلمون أولى الناس وأحقهم بحفظ السلام . فربهم أسمه السلام ودينهم هو السلام ، ولكنهم لا يتهاونون فى ( إعداد القوة و الدفاع ضد المُبادِي بالفتنة لحرية الدين أو المعادي على قيام نظامه ، و حفظ عهود السلام لأجلها و الصدق في نذير الحرب حتى تحتدم حيث يباح بالضرورة الإسرار و الخديعة . و إذا حق الجهاد فينبغي ألا يشذ أحد فيوالي العادي مودة أو قرابة أو رغبة أو رهبة . و الاستنفار و التحريض على الجهاد و اصطفاء القادرين و الصادقين ، و الاستجابة للنفير طوعاً و عهداً دون تخلف فرقاً أو هواناً أو هوىً أو تعذراً أو نفاقاً ، و الخروج بلا بطر أو رياء و الثبات عند اللقاء لا فرار و لا إدبار ، و الصبر على المعاناة و المصائب و الأذى و القرح ، و ابتغاء العدو رغم البأساء و التوكل على الله ، و إدامة الصلاة و ذكر الله و دعاؤه مدداً و نصراً و رجاؤه مغفرة و رحمة و فضلاً في آخرة آجله للمجاهدين و فوراً للشهداء ، و اجتناب النفاق رهباً عند الخروج أو في المعركة أو بعدها و الصدق عند الزلزلة و احتمال ما وقع من مصيبة أو هزمة أو خسارة بغير ندامة أو تلاوم حاد رجعاً ، و التقوى في القتال ألا يؤخذ غير العدو ولا يؤذى غير المقاتل و تُراعى الحدود و الحرمات العرفية ،و عقد الشورى حول خطة المعركة ! أو مهادنة العدو و الطاعة إمارتها في الحركة ، و الإنفاق ما لزمت التكاليف و اتقاء فتنة الاغتنام انصرافاً عن القتال أو غلاً أو نزاعاً بعد ، و الجنوح للسلم عن عزة لا هون ولو على ريبة و التزام السكينة في وجه الحميّة ،و الحمد و الاستغفار خشوعاً لله الناصر عند الفتح ،و معاملة الأسرى مناً أو فداء و الميل للعفو عن العدو بعد الغضب ،و التفقه في الدين أثناء الغزوة لترسيخه بها و تبليغه بعد الرجوع ، و رجوع المجاهدين إلى الحياة في المجتمع وهم تائبون عابدون و بما مارسوا و تزكوا و درسوا هم عاملون فعّالون بقوة وفيّون مخلصون صادقون ثابتون صابرون متوكلون ذاكرون متقون منفقون زاهدون سمحون رضيّون خاشعون ناصحون فقهاء مستعدون للجهاد قدماً لا يعجزهم الكفار )وهكذا يختصر د. الترابى فقه الجهاد والحرب والنصر فى كلمات معدودات.والجهاد لدى د. الترابى لا يكون ضد كافر أو مسلم لرأى إرتاه ، ولو أوله بعض الناس كفراً ، فلا إكراه فى الدين لكافر ، ولا تكفير لمتأول . ولا يحل قتال المتأول إلا أن يبدأ بالعدوان أو الفساد فى الأرض بإهلاك الحرث والنسل ، أو أن يخرج على السلطان الشرعى الذى قبله المسلمون طوعاً.وقد عمت البلوى بأناس يريدون أن يحملوا الكافة على تأويلهم ورأيهم فى مسائل الدين فهؤلاء بغاة إن لم يفئيوا إلى الحق جاز قتالهم حتى يتركوا ماهم عليه من إفساد فى الأرض.
حفظ السلم أولى أولويات السياسة:
والسياسة هى وجه من وجوه الجهاد وأولى أولوياتها حفظ السلام والأمن ليتفرغ الناس لكسب عيشهم وعبادة ربهم.وسياسة الدولة لإستدامة السلام والإعداد لصد العدوان إن وقع هو واجب الدولة الأول . فإعداد القوة نفسه رادع ومانع للعدوان . ولذلك فإن إعداد وجوه القوة كافة ،علمية وتقنية وإقتصادية وعسكرية ، كله يقع فى معنى تلبية النداء لإعداد القوة .فما عادت القوة تتمثل فى عتاد الحرب ووسائلها فحسب بل اصبح الإعداد للقوة إستراتيجية شاملة ،تردع العدوان وتنمى عوامل المنعة والعزة لدى الشعوب المؤمنة. ويجوز فى سبيل إعداد القوة التقوى بالمعاهدات والمحالفات المدنية والعسكرية.ولذلك فإن الدبلوماسية الحاذقة الذكية هى واحدة من سبل دفع العدوان وتعزيز التعاون على البر والقسط بين الشعوب المسالمة .وكذلك ترسيخ حفظ الأمن الداخلى ببناء نظام فاعل للعدالة وللفصل فى النزاعات والخصومات ونظام سابق له لدرء النزاعات والخصومات وقسمة الحقوق بالعدل والسوية والإنصاف .فإذا إستتب الأمن والسلم وفشا العدل فقد تهيأت البلاد للإستقرار والإنتاج والنماء ونشطت فيها حركة العلوم والفنون ، وأبتدرت شوطاً جديدا من أشواط حضارة الإيمان.ولئن كان السلم يقود للإستقرار فإن الإستقرار يؤدى إلى نهضة الفكر والعلم . ولا نهضه لمجتمع ما ما تنهض فيه حركة الفكر ،وتزدهر فيه العلوم والفنون .والترابى يدعو لنهضة فكرية هى أشبه بالثورة ، فالمعالجات الجزئية لأزمة الفكر الاسلامى لن تولد الطاقة الكافية لتحقيق التحول اللازم لإبتدار دورة جديدة من دورات الحضارة . ( ذلك أن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جراء التطور المادي وهي تطرح قضايا جديدة تماماً في طبيعتها، لم يتطرق إليها الفقه التقليدي، ولأنَّ علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعها تبدلت تماماً، ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف سنة، تحقق مقتضى الدين اليوم) فنهضة الفقه ونهضة الفكر ونهضة العلوم والفنون صنو لنهضة الإسلام، فلن تتحقق النهضة بشعار الإسلام هو الحل فحسب ما لم ننتج الحلول إستنباطا من الاسلام فكراً وإجتهادا فى النظر العلمى والتجريب التقنى والفنى . ولن يتحقق ذلك إلا بإطلاق حرية التفكير . وحرية الفكر هى جماع حرية الإعتقاد وحرية الرأى وحرية التعبير . وما لم يتعاقد أهل السياسة على صيانة هذه الحريات لإطلاق فعاليات المجتمع فلن تتحقق نهضة ولن يتهيأ إنطلاق جديد لدورة من دورات الحضارة الإسلامية ،التى تتوق إليها أنفس الدعاة وتتناصر من أجل تحقيقها مساعيهم، ليكون الاسلام هو مصدرالحل بما يحقق للناس من يسرمعاش وعزة ومنعة فى عاجل أمرهم وآجله.

نهضة الفنون :
ومنهج الترابى التوحيدى يوحد بين الفكر والعلم والفن بجامع الحسن المتأتى من الإحسان والإتقان . فما الحسن والجمال إلا الوجود فى حالة التكميل والتجميل.والوجود إذ يبلغ مقام التجمل والتزين يضحى إختبارا وأبتلاء لحسن الإختيار وحسن العمل (انا جعلنا ما علي الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (وليس الفن الا صنع الجمال وهو قدرة وموهبة من الله للانسان تستتبع التكليف والمسئولية. والجمال هو تكملة الخلق(انا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب )( وقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين )أمن خلق السموأت والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فانبتنا به حدائق ذات البهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها اله مع الله بل هم قوم يعدلون) فالجمال والزينة هما منة الله على عباده لتصفو نفوسهم وتسخو وتسمو.بل أن كتاب الله المنزل صورة أخرى من صور الفنون الجمالية ،فكما أن (صور الجمال في الكون المشهود تجذب نظر الناظرين فتوحي اليهم ما فيها من آية للمتفكرين تدلهم علي ما وراء الاشياء من خالق وتعرفهم بما له من صفات الكمال والحكمة والابداع .) فإن الصور الجمالية القرآنية وجه آخر من وجوه الإبداع والتصوير (وصور الجمال في اسلوب القرآن كتاب الله المقرؤ تصاحب الدعوة الي معاني الدين فتؤكد نسبتها الي الله اعجازاً ووقعاً علي النفس الانسانية انبهاراً. ويتجلي ذلك الجمال في بديع الآيات والتسجيع في رويها وفي فنون القصص وروائع الامثال القرآنية.) فالله هو الخالق ولكن من صفاته أيضاً أنه المبدع والمصور. وتؤكد الآيات النعمة في المتعة الجمالية اضافة الي المتعة العلمية النفعية (والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون.) (والخيل والبغال والحمير لتركبوها زينة..) ، (انظروا الي ثمره اذا أثمر وينعه ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون) .( يا بني آدم قد انزلنا عليكم لباساً يواري سؤاتكم وريشاً ولباس التقوي ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)، (يعملون ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان وقدور راسيات اعملوا آل دواود شكراً وقليل من عبادي الشكور)ولاتغيب هذه المعانى الجمالية إلا على غليظ القلب محروم .والفن لدى الترابى قدر من أقدار الله وإبداع من صنعه وهو فتنة وإبتلاء مثل كل أقدار االله ونعمه على خلقه (ليؤمن الانسان أو يكفر فذلك يعني أن الله الذي هدي النجدين والهم النفس فجورها وتقواها قد ركب في الجمال طبيعة مزدوجة فيمكن بادراك الجمال وصنعه أن يهتدي الانسان ويعبد ويزداد هدي وعبادة ويمكن أن يضل ويفتن. فالفن التماساً وادراكاً وصناعة للجمال يجاوب شهوة في الانسان المحب للصور الجميلة والفن من حيث هو ممارسة رمزية تؤمي الي مثال جمالي وتفاعل مع خيال الفنان وتتجاوز به الواقع المباشر ويقترب من الدين بأكثر من كل ممارسة أخري كالحكم أو الاقتصاد أو الجنس فهذه لا تنطوي علي قيمة رمزية مثل الفن ( فالذين يحاربون الفنون بدعوى أنها صارفة عن العبادة قد جهلوا قدرة الفن الفائقة ليكون براق العروج الى السمو الروحى والأخلاقى الفريد .( فان الفن وثيق صلة بالدين ويمكن للدين والفن أن يتساوقا فيهدي الفنان الي الايمان ويلهمه ايمانه فناً زائداً، ولكن بذات الطبيعة ففي الفن تكون الفتنة فهو مثل الحكم والاقتصاد والجنس يجذب الشهوة ويوشك أن يبهر الانسان ويعتقله فلا يبلغ مقام التجاوز تجاوز الاشياء بدفع من ذات جاذبيتها تطلعاً الي وجه الله. وتلك هي حالة المفارقة الحاسمة بين الاخلاد الي الارض والمعراج الي الله. ) و الفن هو أشبه فى رمزياته وإشاراته بالدين وهو أقرب الوسائل لتعميق المشاعر الدينية فى النفوس وقد ارتبطت الظاهرة الفنية بالظاهرة الدينية منذ فجر الخليقة ولاتزال الألحان والتراتيل والترانيم متصلة بالشعائر الدينية ولا تزال الصور والأشعار الرمزية مرتبطة بالتعبير الدينى ولكن (الفن وهو يمثل ما هو أقرب سبباً الي الدين من الحكم أو الاقتصاد أو الجنس فهو أشد فتنة عن الدين لان أنفعاله لا شعوري لا يناسب التوجه العاقل والحركة القاصدة مما هو شأن نيات الدين المتجهة بوعي نحو الله. بل أن الفن اشباع للحاجات الغامضة في النفس وهو انفعال طلق من الوجدان لا يكاد يعرف حدود التزام موجه منضبط بل ينزع لصاحبه في الخيال وقد يلهيه عنكل قصد وحد وقد يشطح به وراء كل ضابط وهو بهذا اقرب نسباً الي خاصة نفس الفنان واحواله الذاتية وابعد من أن يكون نظاماً موضوعياً أو وظيفة اجتماعية ملتزمة للمصالح العامة أو بيئة الواقع وحاجاتها .وهكذا تتضح الرؤية التوحيدية للفن فالفن صنو للحياة وهو بعد من أبعادها وقدر من أقدارها يمكن للإنسان به أن يرقى وأن يسفل، فهو للمؤمن مرقاة للترقى وللكافر العمى غشاء للأسماع والابصار والأفئدة بالتهويمات والتوهمات التى تخلد بصاحبها إلى الارض (ألم تر أنهم فى كل وادٍ يهيمون ,انهم يقولون ما لا يفعلون )لكن الفنان المؤمن يحدث عن نعمة الله وزينته التى أخرج للعباده والطيبات من كل شىء.
نواصل

د. أمين حسن عمر