جعفر عباس

معاناة أهلي العرنوبيين (4)


أواصل الفضفضة عن معاناتي وغيري من العرنوبيين (المستعربون قسرا) في المدارس بسبب عدم فهمنا للغة العربية، وعن العقاب البدني العنيف الذي كنا نناله إذا ضبطونا نتكلم النوبية بين أسوار المدرسة، وبعض مدرسي ذلك الزمان لم يكونوا صالحين حتى للعمل في إصلاحيات الجانحين. (العمل في تلك الإصلاحيات يتطلب طول البال والتسامح وليس التعامل مع الجانحين على أنهم مجرمون محترفون)، ويخيّل إليّ أنهم اختاروا التدريس لإرضاء نزعاتهم السادية. وما يحيرني هو أننا كنا مؤدبين وأليفين ومدجنين، ومع ذلك فقد كان أولئك البعض يتحينون الفرص لإشباعنا ضرباً وركلاً. إلى يومنا هذا وأنا أكره جدول الضرب ومدرسي الرياضيات والرياضة بوجه عام. ولا أحب المحاسبين لأنهم يتعيشون من الأرقام و«عكننة» خلق الله: يا جماهير شعبنا البطل، إن ما فيكم يكفيكم ولا حاجة بكم إلى المحاسبين. يكفيكم الحساب العسير الذي ينتظركم يوم لا ينفع مال ولا بنون، فلا تتركوا المحاسبين ينغّصون عليكم عيشكم بالألغاز التي يستخدمونها لحرمانكم من مستحقاتكم المالية.
هل لاحظ أحدكم كيفية أداء المحاسبين لأعمالهم؟ إنهم لا يكادون يرفعون رؤوسهم عن الأوراق وشاشات الكومبيوتر. يندمجون في العمل بشكل يدعو إلى الريبة، أتعرفون لماذا؟ لأنّ المحاسبة نوع من النشاط المخابراتي، فإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا يوجد في كل مؤسسة وشركة وإدارة حكومية جيش من المحاسبين؟ ثم يأتي مدقق / محاسب «خارجي»؟ إنهم يتعيشون من رصد أخطاء الآخرين والإبلاغ عنهم. إنهم يجدون لذة خاصة في حرمانك من أموال يسوقها الحظ إليك. محاسب الرواتب مثلاً، ماذا يفعل؟ كل موظف راتبه معروف، وعلاوته وبدلاته معروفة، فلماذا يجلس محاسب الرواتب هذا شهراً بعد شهر يحسب ويدقق؟ بسيطة إنه يبحث عن ثغرات لحرمان الموظفين من راتب نصف يوم أو جزء من العلاوة. ولا يعني هذا أن المحاسبين أعداء لأمتنا. لا. إنهم ضحايا علم الحساب. لقد أصابهم فيروس الحساب الذي يتكاثر بمرور الزمن ويحرم ضحاياه من أخذ الأمور ببساطة، فيعقّد حياتهم فيلجئون بالتالي إلى تعقيد حياة الآخرين.
أرأيتم كيف حملني مدرس الحساب ذلك إلى استعداء المحاسبين؟ اعذروني يا جماعة، فكلمة «حساب» تسبب لي حساسية عصبية. لقد أنستني الموضوع الذي أنا بصدده. آه تذكرت، كنت أتحدث عن العرنوبيين أي النوبيين الذين تعرضوا إلى التعريب قسراً أو طوعاً. وعندما ازدادت وطأة الاضطهاد اللغوي لنا خلال المرحلة المتوسطة، عملت جاهداً على زيادة حصيلتي من اللغة العربية، ثم شرعت في كتابة الشعر بالعربية كي أقنع الجلادين «المدرسين» أنني تعربت بدرجة كافية، ورأيت أن أتغزل «بالمرة» بالحكومة، وكانت عسكرية لا يتغزل بها إلا جبان أو منافق، ولكنني رأيت أن أكتب قصيدة أمدح بها الحكومة فأنال رضاها كي يهاب المدرسون جانبي، ويكفوا عن ضربي بتهمة ممارسة التحدث باللغة النوبية، وجاء في القصيدة بيت قلت في عجزه: «وتقلّب السودان كالحرباء». كنت أقصد بذلك أن حال السودان تغير بفضل بركات الحكومة الرشيدة، ولكن مدرس اللغة العربية أقام الدنيا وأقعدها: يا ابن الـ… هل تريد أن تخرب بيوتنا؟ تتهم الحكومة بالحربائية وعدم الثبات على مبدأ مالك أنت والشعر أيها الأعجمي البائس؟ هل يعقل أن يصبح شخص اسمه «جعفر عباس» شاعراً؟ والله لو ضبطتك تستشهد ببيت من الشعر العربي لأقيمنّ عليك حد شارب الخمر. أي يوم أسود هذا الذي أتى بنا لندرّس هؤلاء البرابرة أصول الكتابة والتخاطب ليتطاولوا على لغتنا؟
لا أطيل عليكم فقد خسرت الآداب العربية بذلك شاعراً فذاً وفحلاً «بالمناسبة لماذا يوصف الشعراء بالفحولة؟ يعني ما صلة الفحولة بكتابة الشعر.. وهل يجوز أن نصف الشاعرة فدوى طوقان – مثلاً – بأنها فحل؟» أسئلة بريئة من أحد العرب المستعربة!