الصادق الرزيقي

يقول لي وهو يحكي البرق مبتســـــماً


«أ» لا أدري؟ لماذا كلما أقبل رمضان.. تذكرت جارنا في نيالا آدم علي..؟!! رجل بسيط من غمار الناس، مسحوق، مَحَقه الفقر وسحقه العوز، لكنه صاحب همة وعزيمة تلامس الجوزاء.. لم تحجب عنه مكابدات الحياة، بعض اهتمامات تبدو كفقاعات الصابون، تأخذ نفسه وروحه وعقله وتجذبه لولع غريب بالتاريخ والأنساب والفقه الطائش المنقول من مصادر مجهولة، تحتويه كُتب صفراء وحواشٍ لمتأخرة المجتهدين في عصور انحطاط الدولة الإسلامية عقب سقوط الأندلس.. وجارنا آدم علي فيه بعض فكاهة تظلل حياته البائسة، فهو رجل يعيش زمانه بزهد وقناعة لو أنها قُسِّمت على أهل الأرض لوسعتهم جميعاً. ويعيش في ذات الوقت بتطلُّع لو استطال لبلغ قرن الشمس وما اكتفى!! كان متطلعاً يجيد حرفة التحذلق المحبب البريء، له خُيلاء بما يعرفه من نثار اهتمامات، أشبه بخيلاء الطواويس.. ومن غريب الصدف أنه حين يمشي متبختراً من دون تكبُّر واستعلاء، يردد مازحاً مقطعاً من قصيدة حفظناها في المرحلة الابتدائية، دون أن يدري أنه يجسد ما تقوله كلمات القصيدة: مشى الطاؤوس يوماً باختيالِ فقلَّد شكل مشيته بنوه فقال علاما تختالون.. قالوا بدأت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوه ثم يطلق قهقهة عالية تردد صداها الآفاق، تنبع قدحاتها من أغوار عقله الباطن الذي يعطيه إحساساً بأنه يملك الدنيا وأرجاء الفضاء.. لكنني لم أرَ فيه إلا أنموذج إنسان دارفور السهل المنبسط البسيط، الجزل اللطيف، كنسمة باردة أزاحت الحرور واللظى.. لا يؤذي نملة ولا يجرح وردة.. له أقرب دمعة في وجه الأرض قريبة من خد صاحبها، وهو أيضاً يحاكي نهاية التاريخ لجيل عاش بين منزلتين، الأمل النضاح كـ(المشيش)، وغلظة الحياة التي حرمته كل شيء.. وخرج منها بلا شيء. «ب» ما أن يحل الشهر الفضيل ببركاته وفضائله، ويتجمع الجيران وأهل الحي في «الضرا» الكبير، في شارع منزلنا، إلا ويأتي إلينا جارنا آدم علي، بجسده النحيل وشاربه النافر كجناحي نسر خرافي، نشرهما في الفرقدين، ولحيته الصغيرة المدببة أشبه ما تكون بلحية فلادمير لينين مؤسس الاتحاد السوفيتي السابق، أو تلك المرسومة على أغلفة كتب روايات بارديليان للروائي الفرنسي ميشال زيفاكو التي تصور فترة ما بعد الثورة الفرنسية وقبلها، كُنا نُقبل على تلك الكتب نلتهمها بضراوة في تلك الفترة الزاهية من أعمارنا. وهو يتأبَّط حقيبة جلدية عتيقة غامقة اللون أكل الدهر عليها، لها حزامان عريضان على جنباتها تقفل بهما، وعلى رأسه طاقية طويلة حادة كرأس الرمح تطعن الفضاء في خاصرته العريضة، ينتعل خفاً من جلد الغنم معكوف المقدمة، رُقع جلده وأسودَّ لونه وثقُل وزنه من كثرة الرُّقع عليه، يذكِّر بحذاء أبي القاسم الطنبوري في مرويات التراث العربي العباسي القديم. يستعير جارنا مقولات مجتزأة من سحيق التاريخ والزمن، لا يدري عنها شيئاً، ربما تكون من مخزونه الهائل لمسموعاته من إذاعة القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية لندن، التي لا يتحرك مؤشر مذياعه عنها قيد أنملة، ودائماً ما يتوسط «الضرا» قبل موعد الإفطار بربع ساعة وقبل أن تتوافد الموائد من البيوت. فيختار «برشاً» في وسط المكان. ويتحكَّر في مكانه كتمثال بوذا، وينزل حقيبته الجلدية العريقة التي يتأبَّطها، ويدلق ما فيها على البرش، وهي كتب وقصاصات من الكتب الصفراء «متن العشماوية.. ابن عاشور… الخ»، بعض مخطوطاته من الفقه المالكي المنتشرة في المغرب العربي وغرب إفريقيا، ويحتفظ أيضاً بكتب غريبة ملأى بالرسومات الغامضة والطلاسم كالتي يحتفظ بها بعض المشعوذين. ثم بحركة درامية كثيفة الإشارات والدلالات، يخرج من جُب جيبه نظارة سميكة مقعَّرة، بلا أيادٍ ربطها بقماش ملون مثل «سوط المطر»، ليقرأ بها علينا بعض ما فقَّهه فيه زمنه الكؤود. لكن الأعجب من ذلك… هو عندما يمل في دقيقتين القراءة بصوت عالٍ، فيرمي كتبه لتلقفها حقيبته ويبدأ حديثه في الأنساب وأصول القبائل وأفخاذها وبطونها. ويدري أو لا يدري كان يبحث في حفريات التاريخ القريب والبعيد، ويعثر على جوهرة نادرة لا ندري كيف وصلته وهي قصاصات من قصيدة (سوميت بنات درجيل)، للشاعر الكبير عالم عباس: أيها الودق الذي يخرج من صلب السحاب أيها النازف مني.. بك قد عدت هلامياً وخلقاً من جديد.. ثم أني قد تحولت، تشكلتُ، تكاثرت ُ مدى مليون ميل صارت الغابات شَعري، فاحماً في الليل محشواً بأسرار القبائل كان ليلياً وجونياً وقار فإذا جاء النهار ظل مُربداً كلون النيل، شيخاً كبريائي الوقار سار خمرياً كمنقوع النبيذ وإذا شعري غابات من «الطندب» و«الكِّتِر» و«حُميض» الجبال صرت ُ مُغبراً كما السهل الذي ما بين سنار وكوستي فإذا امتد الأصيل صرت مُحمَرّاً كسيقان من «الطلح» اليبس ضئت كالأبريز من «نال» نيالا أو كقمح البيدر المهجور في تل بليل عسجدياً مثلما امتص عصير الشمس قش من «بياض» عوسجياً مثل وديان الحراز فإذا جاء المغيب ذبت كالشمس على صدر النهود وصبغت الرمل ورساً كردفانياً معصفر وضممت ُ التل أكثر وتمطيتُ كتمساح على رمل الجزائر وتغطيت بأدغال الجنوب وتوسدت ذرى نخل الشمال ثم أرخيت على «دار فور» أهدابي ونمت كانت الصحراء ملقاة على كتفي شالاً محكم الوشى منمنم من نسيج «العشر» الغُبر وأشجار «الهشاب» ثم نهر النيل في صدرى وشاح وعلى الشرق كما في الغرب يمتد جناح أيها الليل الصباح أأنا أحلم؟ أم أن الرياح أسكنت من عصفها المجنون فارتد السكون هاجعاً وسنان أم أن الحفيف كجناح رف مسحوراً فأغفيت وأغفت «سندريلا» في مهادٍ عاطر الضوء شفيف أم دعاشات الخريف أسكرت روحي فهمتُ وتغشّت خمرة التذكار أعصابي فنمت يا عذارى موطني النائي تعاليْن إليَّ بالزغاريد وإيقاع الدلاليك وبالرقص المغامر بدخان الصندل المحروق في نار المجامر «ت» ينحدر هذا الجار الذي يشبه المخلوقات الأسطورية الغابرة، من أرومة تنتهي بأعظم سلاطين مملكة الداجو التي اندثرت قبل قرون، وهو السلطان الشهير «كسوفروك»… وعُرف هذا السلطان، بأنه أفنى خيار أبناء قومه في طلبه الغريب، بأن يحفروا جبل «أم كردوس» الذي يقع شرقي مدينة نيالا «أربعين كيلومتراً تقريباً» وهو صخرة ضخمة ملساء مغروسة في التراب. وأرغمهم على حمل هذا الجبل الذي يقبع وحيداً في سهل عريض ليلحقوه بتسعة وتسعين جبلاً وهي سلسلة جبال داجو لتكون مائة جبل. ولما شق على القوم العمل ومات خلق كثير من الداجو، عمدت عجوز من ذوات الحكمة إلى خداع السلطان فذهبت إليه وقالت له: ـ سيدي السلطان إنك رجلّ فارس شجاع، لقد ركبت الخيل والجمال وكل سابق ولاحق، إلا شيئاً واحداً.. فهاج السلطان وقال لها: ـ وما هو هذا الذي لم أركبه؟ ـ التيتل يا سيدي السلطان. فأمر السلطان كسوفروك بإحضار حيوان التيتل، فتصيده فرسان السلطان حتى أتوا به، جامحاً كالبرق، قرونه الطويلة الحادة تطعن الفضاء، أرجله طويلة كسيقان القصب، ضامر البطن والحشا كجنية حسناء خرجت من دخان الأحاجي والخيال، ولما همَّ بركوبه، جاءت العجوز الداهية، وطلبت من السلطان أن يربط نفسه إلى ظهر «التيتل» وتم ربط السلطان بقوة، وجفل الحيوان السريع الذي لم يركب ظهره من قبل مخلوق قط.. وانطلق جافلاً جارياً كالسهم الفالت من قوسه، وجرى أهل السلطان وراءه فمزقت أشواك الغابات وأغصان الشجر جسد السلطان الطاغية، وصار أهله كلما وجدوا قطعة من لحمه، أقاموا قرية عندها، من مناطق شرق نيالا حتى داخل تشاد غرباً لمسافة تزيد عن ستمائة كيلومتر. وانتهت حياة السلطان بهذا المطاف والخاتمة الحزينة على يد المرأة الماكرة، ولم تزل آثار الحفر حتى يومنا هذا باقية عند جبل أم كردوس. جارنا آدم علي سليل هذا السلطان، وابن نجيب لبيئة شرق نيالا وأهلنا الداجو. «ث» لكن آدم علي يظل في تهويماته التاريخية وبعض خيالاته الجميلة التي يعطر بها ليالينا الرمضانية منذ ساعة الإفطار وبعد التراويح وحتى ساعات الصباح وأوقات السحر، أما تلك الحكاية التي يرويها ويعتقد فيها بأن قبيلة الداجو، نزحت للسودان من جمهورية ألمانيا الاتحادية، ومن قبل أوروبا..!! فكانت قصته الأثيرة والعجيبة. وهدته الذاكرة والمخيلة الشعبية المجنحة، إلى قصة بسيطة وربما ساذجة.. فيقول جاداً وموقناً بصحة ما يروي بعد أن يمط شفتيه ويذمهما: «خرج جدنا من المناطق الباردة في ألمانيا، ودخل إيطاليا عبر شرق أوروبا، ثم أقام في تركيا، ولم يُطق ويطب له البقاء، فنزح إلى الشام ومنها لمصر، ولما ضاق بالحال تسلل إلى السودان وركب النيل حتى ألقته مركبة شراعية عند ضفاف النيل الأبيض، فتوجه غرباً نحو مناطق كردفان ومنها دخل شرق دارفور وأقام عند قبائل متنقلة هناك، ولما طال به المكوث اجتمع قادة تلك القبائل وقالوا: ـ الزول «الداج» دا أدوه مرا..!! فزوجوه وسُمي أولاده داجو..!! نسبة إلى كلمة الداج أي الهائم على وجهه. «ج» ويظل جارنا في رمضانياته التي طواها رحيل السنوات الثمانين من القرن الماضي، ومضة نار هائلة كنار المجوس في عتمة الحياة… باذخاً في حكاياته لطيفاً في مسامراته، يتلوى صوته في درب العمر مثل شعاع تائه بلا مسار.. ورمضان في نيالا.. معطر الأجواء بالحكايات وممدود الموائد.. من ملاح الفرندو والدودري والروب والكول والتقلية عين الديك، ومن مشروبات العرديب والتبلدي والقضيم والأنقارا وأم جنقر.. وحكايات الرجل تذكرني قصيدة غائمة مبللة كغمام النهار الخريفي الخصيب: لأن الورد لم يزهر على شباكنا الغربي هذا العام لم أفرح!! لأن حبيبتي أرخت جدائلها ونامت في ذرى الأحلام لم ترجع طيور الصبح كي تصدح لأن العمر يسبقني لقبر الصمت والآلام وتزرعني مآسي وحدتي.. أوهام لم أخسر سوى ذاتي ونجماتي وكل مشاهد المسرح