عبد الجليل سليمان

بيثارنيك وعبد المنعم وأحوالنا


وحين نكتب عن عبد المنعم محمد أحمد (مرة أخرى)، نشعر وكأننا نكتب عن (كتاباته الرائعة) للمرة الأولى، كتابة تنسرب فيك كالظل في الظل والماء في الماء، تصيخ (سماعتيك) وترخيهما مليَّاً لرصد هسيس رغوتها، ولا تغادر. ولأنني لست في مقام امتنان (وعبد المنعم يستحق أكثر)، بقدر ما أجدني كالمنخرط في حالة مقاربة كتاباته بالسائد في صحفنا من رثاثات لا تخفى، وكأنما الصحافة (لعبة ساكت)، يكتبون فيها بأقدامهم المشققة، لا يبالون، ثم يقرعون لأنفسهم الطبول ويزمرون لها بالمزمامير احتفاءً، ونغضب، لكننا رويدًا، ثم نعذرهم مرددين (خربانه من كبارها) وننصرف عن مآسيهم إلى ملاهٍ محتملة، فنخسر هذا وذاك، ولا نذرف الدمع، بل نشيح ونمضي سبيلنا.
كما الشاعرة الأرجنتينة العظيمة ألكسندرا بيثارنيك، ينثر عبد المنعم محمد أحمد على (جمعاتنا) عطرًا فذاً، إنه لا كما يبدو الأمر على سطح كتابته منجر إلى الماضي مخاصم للحاضر، بل هو مستغرق في الراهن باستلهمات ماضوية تضفي للمقارنة ما يشبه المسك، وهكذا تنكتب القصيدة لدى بيثارنيك، وهكذا كان يكتب الصحافي غابرييل غارسيا ماركيز تحقيقاته.
والحال، إن التحقيق والتقرير والخبر (القصة) وأنواع الكتابة الصحافية كافة، وحتى نشرات الأخبار المسموعة والمرئية لن (تقبض وتفك) وجدان قرائها ما لم تكن محمولة على لغة (عالية) وماهرة وحاذقة، لغة كشعر ألكسندرا بيثارنيك: “لا شيء غير العطش والصمت، لا ألتقي بأحد/ ترفّقْ بي يا حبيبي ترفّق بالصامتة في الصحراء، بالمسافرة مع كأسها الفارغة ومع ظلال ظلها”.
ولأن الحكومة لا تترفق بالمواطن، والصحف تتحدث والواقع يعبّر بلسانٍ ذرب عن أحوال الناس بالغة الرثاثة من أزمات ماء وكهرباء ونفايات وغلاء ومرض وبلاء، فإن على الصحافة أن تترفق بالشعب الصامت في صحراء الظمأ هذه، المسافر وحيدًا مع كأسه الفارغة، بأن تعتني قليلاً قليلاً بلغتها حتى في كتابة الخبر.
وبما أن عبد المنعم يفعل ذلك، نعتني بكتابته، ونقايسها بشعر بيثارنيك، وهو وأنا لم نلتق بعد، ولم نتحدث إلا لمامًا ومن (بعيد لي بعيد)، وكنت لولا مشقة العمل يوم الجمعة الجامعة، ممدت رجلى كأبي حنيفة وأطلقت لساني على كتابات الرأي اليومية في الصحف السودانية (الأعمدة) وقلت فيها (كلمتي السامعة)، لكنني منصرف الآن إلى عبد المنعم وبيثارنيك وأحوالنا، وأقرأ للأرجنتينة وأستمع إلى صوتي فلا أحد سواي في المكتب الآن: “هذه العظام اللامعة في الليل، هذه الكلمات كأنها حجارة ثمينة، في حنجرة حيّة لعصفور محنّط، هذه الخضرة المحبّبة هذه الليلكية الحارّة، هذا القلب وحده غامض/ بيدين صغيرتين
تداعب الجلد الثائر لذلك الشيء الذي ينمو في الحلم. قرابين مسرات مكفّنة، تُترَك في الظلام المرتجف، في رعب الموت البدائي”.
بطبيعة الحال، لا أظن أن يتحقق ارتقاء في لغة الصحافة قريبًا، فالأمر مرتبط بأوضاع على الأرض، تعليم متدنٍ، ومعيشة ضنكا، وتدريب (صفري)، وهامش حريات أضيق من خرم إبرة، لكن أحلم فقط، أحلم أن يحدث ذلك في دقيقة، فنكتب أخبار وتقاريرنا و(أعمدتنا).. بطريقة عبد المنعم محمد أحمد، وهاكم مجددًا من لدن الأرجنتينة: “في دقيقة من حياة قصيرة وحيدة مفتحة العيون في دقيقة أرى. في ذهني زهراتٌ صغيرة ترقص كأنها كلمات في فمٍ أخرس”.