مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : أصوات عاقلة وسط الجنون


«إنه عالم مجنون» فعلا ليس كما حكى الفيلم السينمائي الأمريكي في ستينات القرن الماضي والذي حمل نفس الاسم فحسب، وإنّما تطور الجنون أكثر من ذلك حتى بات العقل عملة نادرة من الصعب الحصول عليها أو الاحتكام إليها. ولكن الدهشة بالأفعال والأقوال المجنونة لم تترك مساحة لغيرها مما يحتكم لصوت العقل، فأصبح – ويا للمفارقة – العاقل هو المجنون وهو من يستحق رفع حاجب الدهشة لتصرفاته أو لمجرد رؤيته.
وبما أنّ الحكم المطلق جنون مطبق، فإنّه لم يكن هناك من خيار أو سبيل غير أن يقابله جنون أكبر مثلما حدث بقيام ثورات الربيع العربي منذ 17 ديسمبر2010 بعدما أشعل محمد البوعزيري النار في نفسه احتجاجا على حالة البطالة التي كان يعاني منها. وتوالت من بعد ذلك حالات الحرق الاحتجاجي، وأصبح الجنون مألوفا لدرجة وصف ما قام به الأسد من حرق للمدنيين بحفلات الشواء. والعبرة هنا ليست في إلفة قسوة كهذه وإنّما في الوصف الذي يكاد يُلطّف من فعل بهذا الكم من اللا إنسانية. ولولا لحظة جنون البوعزيري لما تجاسر الشعب العربي على الشجاعة وقول «لا» في وجه الحكّام المستبدين، لأن كلمة «لا» في حد ذاتها جنون لا يقدم عليه إلّا من فقد جزءا من عقله في لحظة تجلٍ، تجعل الحياة والموت سيان عند من يغامر بقولها في وجه حاكم من أمثال القذافي والأسد وصالح.
هناك أيضا جنون داخلي يراه المواطنون في نظام دولتهم التي تنخر فيها عوامل التآكل ولكن ما يراه القوم أنّ نهاية الدولة إن لم تكن بالثورة، فإنّها ستكون بالمؤامرات والفتن. وستنتهي كما انتهت دولٌ منها على سبيل المثال، الدولة الأموية التي كانت مثالا للقوة، وكان يُضرب بخلفائها وآخرهم مروان الثاني بن محمد بن مروان بن الحكم، المثل في الشجاعة والصبر فقيل «أصبر في الحرب من حمار». فقد أظهر كفاءة وقدرة في إدارة شؤون ولايته، ولكن عصفت بدولة الأمويين في عهده الفتن فسقطت أكبر دولة في التاريخ الإسلامي امتدادا من شرق آسيا إلى أوروبا وأفريقيا.
وبعيدا عن جنون السياسة فإنّ هناك جنونا يأخذ بتلابيب الفن منذ أن خُلق العالم. وبينما كان ذاك الجنون ملهما في الإنتاج الإبداعي، فقد اعتبرت المجتمعات الفنانين من هذا النوع مجرد مجانين يتصرفون بطريقة غريبة ولهم طقوس خاصة أشد غرابة تخرج بهم عن المألوف. فلولا جنون الرسام العالمي الانطباعي فينسينت فان جوخ لما تمتعنا بزهرة الخشخاش. فقد أوصل الجنون هذا الفنان إلى قطع أذنه وإهدائها إلى حبيبته قبل أن ييأس وينتحر. أو جنون مايكوفيسكي شاعر الثورة الروسية صاحب القصيدة الشهيرة «غيمة في بنطلون» الذي انتحر بعد تعرضه للخيانة العاطفية، وبعد خيانة الثورة لتطلعاته وكثيرٌ غير ذلك من قصص الجنون الملهم.
أما في عصرنا الفني الحالي فإنّ هناك نوعا آخر من الجنون، فارق ذاك النوع الملهم وهو جنون في مدعاته للابتذال. هو جنون فوضوي يجرد الفن من أهم مكوناته، فلا إحساس في الإنتاج الفني وإنّما مفارقات ونشاز تصد صاحب الفطرة السليمة عن تقبلها. واللوم لا يقع على هؤلاء من أهل الفن الجدد وحدهم، فالفنون بأشكالها المختلفة تخرج من ذواتهم ومحيطهم الذي هو نتاج طبيعي لزمن يشهد انحطاطا فكريا وسياسيا وثقافيا يطبع ملامحه على جميع أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وإن كان «في بعض الجنون صواب» كما قال نزار قباني في قصيدته (يوميات رجل مجنون)، فإنّ هناك جنونا يدعو إلى تفوق شعبية من أصبحوا بين ليلة وضحاها نجوما تسعى الجماهير إلى توقيعاتهم الأنيقة، على من حفروا الصخر وصبروا وثابروا حتى يأتوا بالأصيل المفيد. وبين هؤلاء وهؤلاء لا مقياس لحصيلة أدبية أو فنيّة حققوها، فمهما حاولت أصوات شجاعة تقول لا للرداءة وتدافع عن النقي والجيّد، فإنّها ستكون الأصوات العاقلة الوحيدة وسط عالم مليء بالجنون.