تحقيقات وتقارير

نزعت عنها دثار الخوف والرهبة الفاشر بالليل.. ابتسم فليس كلُ شخصٍ تقابله يحمل أعباءً كثيرة


“اقابلك في زمن ماشي وزمن جاي وزمن لسه”، برائعة عمر الطيب الدوش استقبلنا سوق مدينة الفاشر الكبير في الحادي عشر من شهر رمضان المعظم، فكان اللقاء على وقع تلك الأغنية الخالدة التي ترنم بها الموسيقار الراحل الخالد محمد وردي، والتي كانت تنبعث لحظة دخولنا السوق عقب صلاة التراويح من محل لبيع كروت شحن الهواتف السيارة يقع شمال ميدان النقعة، فكان أن التقينا الفاشر في هذا الشهر الفضيل على غير ما كانت عليه في الأعوام الماضية والتي كانت تتوسد خلالها الحزن وهي تغمض عينيها باكرا وتتسلل من مقلتيها دموع الحسرة على زمن مضى كانت تسهر فيه حتى الصباح بطمأنينة وأريحية تميز مجتمع مدينة تحمل كثيرا من الألقاب في تأكيد على عظمتها، واخترنا أن نتجول فيها ليلا حتى الساعة الواحدة صباحا وذلك لنتلمس إيقاع الحياة ونختبر وضعها الأمني الذي مر بفترة يصفها الفاشريون بالعصيبة .

الدعم السريع يحتل السوق

أوقفنا العربة التي كانت تقلنا شمال إستاد النقعة الذي يحتفظ بذكريات مؤلمة لطرفي القمة السودانية الهلال والمريخ اللذين تجرعا فيه من قبل كأس الهزائم ووقعا في فخ التعادلات وهما يلتقيان قمة فاشر السلطان الهلال والمريخ، وحينما ترجلت من العربة هممت بقفل زجاج النوافذ ومرد هذا الفعل جاء لسببين الأول أنه في العاصمة الخرطوم التي تبعد ما يقارب الألف كيلو من الفاشر لا يمكن لأحد أن يترك زجاج عربته دون أن يغلقه خوفا من اللصوص، والسبب الثاني يعود إلى سمعة الفاشر التي طالما احتلت عناوين صحف الخرطوم بجرائم سرقة العربات، إلا أن مدير إعلام الولاية الزميل خالد مريود ضحك من تصرفي هذا وإصراري على إغلاق الزجاج، مشيرا إلى أن المدينة آمنة ولا يوجد ما يثير المخاوف على العربة،

بعد ذلك تحركنا باتجاه السوق ولكن قبل أن نبدأ تجوالنا لفت نظري الوجود المكثف لجنود قوات نظامية بعضهم يرتدي اللباس العسكري وآخرون في ازياء مدنية بيد أن جميعهم يحملون أسلحة حربية متنوعة، وهذا أثار مخاوفي التي فضلت عدم الجهر بها، والوجود المكثف للنظاميين أثار حيرة خالد مريود الذي أكد أن الفاشر ودعت المشاهد العسكرية المكثفة خاصة في الأسواق، منذ أن تولى أمر إدارة ولاية شمال دارفور، عبد الواحد يوسف، وعندما استفسرنا عن الأمر علمنا أن القوة تتبع لقوات الدعم السريع قادمة من خارج الفاشر، ليزداد فضولي وللغرابة فإنه في ذات اليوم حملت الوسائط الإلكترونية عديد أنباء عن تجاوزات ارتكبها بعض أفراد هذه القوات التي تصفها الحكومة بالقوة الضاربة عالية الكفاءة العسكرية، وبالشراسة وإجادة “الدواس” بلغة الدارفوريين بمناطق بغرب العاصمة وهذا ما رفع من حاسة الصحافة لدينا للاستوثاق من الأنباء التي تم تداولها على نطاق واسع بالوسائط الإلكترونية، وكان الجنود يحملون أسلحتهم ويتوزعون على متاجر السوق وأماكن بيع الشاي والقهوة ومحال أجهزة الهاتف السيار، وحركتهم كانت طبيعية ومنضبطة، انتظرت مجموعة منهم كانت تحتسي شاي من إحدى السيدات حتى اتعرف على حقيقة شربهم دون مقابل ـ كما يتردد ـ ولكن انبرى أحدهم واصر على دفع الحساب بعد أن كان ثلاثة من زملائه يريدون دفع مقابل ما تناولوه من شاي وقهوة وبالفعل منح السيدة الأربعينية أموالها كاملة وتبقت لهم خمسة جنيهات فقال لها “خليها رمضانية”.

وبعد ذلك صادفنا مجموعة منهم في محل بيع أجهزة هواتف سيارة ومجددا دفعوا لصاحب المحل ثمن هاتف، سألت أحمد وكان يجلس في دكان شرق ملعب النقعة الذي كنا نتجول حوله عن تعاملهم مع قوات الدعم السريع فعاجلني بالإجابة قبل إكمال سؤالي “والله ما شفنا منهم حاجة كعبة، وهم عساكر منضبطين، كثيرا ما يحضرون إلى السوق ويشترون ما يريدون ويدفعون المقابل المادي وينصرفون”، بعد ذلك التقيناهم في سوق حجر قدو وغيرها من أنحاء بالسوق وقد احدثوا يومها بشهادة صاحب متجر حراكا اقتصاديا، وتمنيت الاقتراب أكثر من أفراد هذه القوات ومعظمهم شباب في العقد الثاني من عمرهم وذلك للتعرف عليهم ولكن ضيق الوقت حال بين رغبتي وتحقيقها وتركتها لوقت آخر إذا سنحت الظروف.

الأبواب المشرعة

سوق الفاشر في الثاني عشر من شهر رمضان ورغم الزحام الذي كان عنوانا بارزا له في تلك الأمسية والذي أثار إعجابنا وزميلي خالد جبريل بصحيفة “التغيير”، إلا أنه كان بحسب خالد مريود اقل حركة لجهة هطول أمطار غزيرة قبل الإفطار في ذلك اليوم حالت دون وصول الكثيرين إليه، ولكن رغم ذلك كانت معظم محاله التجارية مشرعة الأبواب، وهذا ارجعه صاحب بوتيك مزن سنتر “معتز عبد الله” إلى الاستقرار الأمني، وقال إن السوق الكبير استعاد جزءًا مقدرا من ملامحه التي كان عليها، وتحدث إلينا من داخل محله الأنيق والمليء بالكريمات والعطور، مشيرا إلى أن الحركة التجارية بفاشر السلطان تشهد ازدهارا جيدا، مؤكدا حدوث تطور كبير في المدينة على الأصعدة كافة، وقال إنه يغلق محله في الساعات الأولى من الصباح، بعد ذلك توجهنا صوب بنك النيل الذي يعتبر من المباني الأنيقة والجميلة بالمدينة والذي اتخذ الكثيرون واجهته الغربية مكانا تجاريا في الفترة المسائية نسبة لتوفر الإضاءة وايضا كانت الحركة كبيرة، لنختار التوجه نحو المكان الأشهر بفاشر السلطان وهو سوق حجر قدو الذي كان عامرا وضاجا بالحركة وكان قوام تجاره من بائعي الأقاشي واللحوم المشوية وبائعات الشاي وكذلك تجار الفواكه، وقد أخبرنا الشاب عثمان أن معظم الفواكه التي تعرض في السوق قادمة من جنائن جبل مرة، وداخل السوق كانت صوالين الحلاقة ايضا مشرعة الأبواب يعمل فيها شباب في همة ونشاط وهم يستمعون من أجهزة التسجيل لفنانين متنوعين وإن كان الراحل محمود عبد العزيز صاحب النصيب الأكبر من الاستماع، مررنا بصيدلية ابن سينا والكوخ التركي للحلويات وبقالة ملاذ سويتز ووجدنا ايضا الزحام عنوانا بارزا من كافة الأعمار، ووضح أن قطاعا واسعا من سكان الفاشر يفضلون الشراء في الليل لبرودة الطقس وسهولة الحركة وهذا ما وضح في سوق الملبوسات الذي كان للفتيات والأطفال حضورا طاغيا في جنباته، وبعد جولة تلمسنا خلالها استقرار الأوضاع الأمنية وعودة الفاشر إلى سابق أيامها فضلنا احتساء شاي بقهوة شوبا الشهيرة والتي يقع إلى الشمال منها نادي للمشاهدة كانت الأصوات ترتفع داخله تفاعلا مع مباريات البطولة الأوربية.

مقارنة

نُتهم دوما كصحفيين بالنظر إلى الجزء الفارغ من الكوب، ورغم عدم صحة هذا الاتهام إلا أننا شاركنا أهل الفاشر فرحتهم بالهدوء الأمني الواضح الذي بات يظلل سماء مدينتهم وهو ملمح لا يمكن تجاوزه أو غض الطرف عنه خاصة لمن زار الفاشر قبل عام وشاهد فيها وصول التردي الأمني إلى درجة كبيرة من الخطورة حتى أن السوق الذي تجولنا فيها بحرية واطمئنان كان يغلق أبوابه قبل أن تلوح الشمس بالوداع معلنة نهاية ساعات النهار، وهذا ما أكده شاب يدعى جمال والذي بدأ سعيدا وهو يتحدث لنا عن عودة ليالي الفاشر إلى ألقها وجمالها وقال: لا توجد ادنى مقارنة بين اليوم وأمس، فقد كنا نعيش في رعب وخوف ونعجز حتى عن الذهاب إلى المساجد لأداء صلاتي المغرب والعشاء بداعي التفلت الأمني الذي كان سائدا، والسوق التي تقفون فيه كان يغلق أبوابه منذ وقت مبكر، وذلك لأن التجار كانوا يخشون على أنفسهم، ولكن بكل صدق الآن تغير الواقع تماما وأصبحنا ننعم باستقرار أمني كبير ونتحرك في كل أنحاء الفاشر حتى الساعات الأولى من الصباح، ونتمنى أن يديم الله علينا هذه النعمة .

زيارات ليلية

من الأشياء التي لفت نظرنا إليها عدد من رواد سوق الفاشر وسكان بعض الأحياء الزيارات المفاجئة التي ظل يسجلها والي الولاية عبد الواحد يوسف، في رمضان عقب صلاة التراويح وإلى الساعة الثانية والنصف صباحا، مشيرين إلى أنهم كثيرا ما يتفاجأوا بالوالي يترجل من عربته ليقف على حركة السوق والأوضاع الأمنية بالأحياء وكذلك موقف الخدمات وحتى الأندية والملاعب ظل يتوجه نحوها، ويحكي لنا شاب يقطن حي تمباسي أن الوالي سجل زيارة إلى النادي عند الثانية عشرة مساءً والتقى شباب الذين طالبوا بصالة بلياردو وكرت للقنوات الفضائية التي تبث الدوريات الأوربية ومبلغ من المال لشراء كهرباء، وكشف عن تصديق الوالي بكل مطالب الشباب، وقال إنهم شعروا بارتياح كبير لزيارة الوالي وتجاوبه مع مطالبهم.

وعلمنا من الزميل خالد مريود أن الوالي وعقب أزمة المياه الأخيرة ظل يسجل زيارات ليلية إلى محطة المياه بصورة مستمرة إلى أن أنجلت الأزمة، وإن برنامج زياراته الليلة في رمضان ظل راتبا وبجانبه معتمد الفاشر وغيره من المسؤولين.

الاتجاه غربا

بعد ذلك توجهنا إلى غرب المدينة حيث توجد ملاعب رياضية وقبل التوجه إليها توقفنا في ملعب الشهيد الزبير الدولي للكرة الطائرة الذي يستضيف بطولة رمضانية إلا أن ذلك اليوم لم تحمل برمجة البطولة موعدا لمباراة ولكن علمنا أن للكرة الطائرة رواد ومعجبين، ثم توجهنا غربا مرورا بالشارع الرئيسي للفاشر الذي يمر عبر أمانة الحكومة وعدد من الوزارات بالإضافة إلى مسجد السلطان علي دينار والمنزل الرئاسي ومقار عدد من الأجهزة العسكرية والأمنية وهو شارع يؤدي إلى المطار وأحياء غرب المدينة، وتوقفنا بملعب الجيش الذي كان يشهد مباراة محتدمة في إطار دورة رمضانية لكرة القدم وكان الحضور الجماهيري كبيرا والأجواء بين حماسية داخل وخارج الملعب، ثم توجهنا صوب ملاعب خماسيات كرة القدم وهي مصممة على أحدث طراز وبدأ عليها أنها جديدة ووجدنا أعدادا كبيرة من الشباب يركضون خلف الساحرة المستديرة داخل الملاعب الأنيقة التي تقع قبالة مبنى السلطة الإقليمية وايضا كان عدد من الشباب ينتظرون خارج الملاعب وهم يرتدون الأزياء الرياضية للدخول بعد أن يحين موعد بداية تمارينهم، جلسنا إلى بائعة شاي في منتصف العقد الثاني وقالت لنا إن شهر رمضان هذا العام جاء مغايرا عن سابقه وذلك للاستقرار الأمني الذي تشهده الفاشر، وقالت إن هذا أتاح لها وغيرها العمل حتى ساعات متأخرة من الليل دون مخاوف وجني مقابل وصفته بالجيد، ولفت نظرنا الأداء رفيع المستوى من اللاعبين داخل الملاعب المغطاة بالعشب الصناعي والمهارات العالية التي يتمتعون بها وتأكد لنا أن تواجد الفاشر بفريقين في الدوري الممتاز لم يأت صدفة، ولأن الأجواء كانت جميلة حول الملاعب احتسينا مرة أخرى أكوابا من الشاي ونحن نستمع إلى الرائع النور الجيلاني من جهاز تسجيل لصاحب طبلية، وعند الواحدة صباحا عدنا أدراجنا نحو مقر إقامتنا، وتكررت ذات المشاهد التي وقفنا عليها في ذلك اليوم بمعظم طرق المدينة التي تمت إضاءة معظمها وتمثلت في شباب يركضون بحماس أعاد لي ذكريات فترة مضت كنت اركض خلالها خلف الساحرة المستديرة في ليالي رمضان حتى الساعات الأولى من الصباح.

عودة مدينة

يمكننا التأكيد على أن فاشر السلطان كبرى مدن البلاد قد استعادت ماضيها التليد وودعت الخوف إلى غير رجعة وبارحت محطة الرعب إلى رحاب الاستقرار والحياة الآمنة ،وذلك بفضل جهود مقدرة بذلتها حكومة شمال دارفور وأجهزتها الأمنية والعسكرية والشرطية، ويبقى التحدي الأكبر أمام حكومتها الحفاظ على نعمة الاستقرار الأمني وتطوير الخدمات نحو الأفضل، وإذا كان الشاعر جمال عبد الرحيم قد انشد في رائعته عطبرة التي تغنت بها فرقة عقد الجلاد “دي محطة الوطن الكبير كانت تضج متحضرة “، فإن الفاشر عادت تضج مطمئنة.

صديق رمضان: صحيفة الصيحة