عثمان ميرغني

رحيل.. مظلوم!!


في هُدوءٍ رحل أمس الأول، مولانا عبد الله أحمد عبد الله رئيس المحكمة الدستورية السابق.. اختاره الله إلى جواره وهو في غربة مركّبة.. غربة عن الوطن والديار في دولة تايلاند أقصى جنوب شرق آسيا، وغربة المرض الذي كابد ابتلاءه بصبرٍ جميلٍ.
مولانا عبد الله يحفظ له التاريخ القرار التاريخي الذي أصدرته المحكمة الدستورية في مارس 2014 وأصبح سابقة قانونية تفتخر به البلاد.. القرار الذي بموجبه عادت “التيار” للصدور في 2014.. ثم اتكأت عليه مرة ثانية في العام الحالي 2016 بعد أن أصبح سابقة دستورية، ليس لصالح “التيار” فحسب، بل الصحافة السودانية كلها.
ولا تقلل إشارتنا وتخصيصنا ذكر مولانا عبد الله رئيس المحكمة الدستورية آنئذٍ؛ أنّ القرار الدستوري كان ثمرة حكمة سبعة قُضاة هم جميع قضاة المحكمة الدستورية وهم: (مولانا د. محمد إبراهيم الطاهر، ومولانا د. حاج آدم حسن الطاهر، ومولانا سنية الرشيد، ومولانا د. محمد أحمد طاهر، ومولانا عبد الرحمن يعقوب إبراهيم، ومولانا سومي زيدان) الذين سَطّروا فيه ما ستقرأه الأجيال الحالية والقادمة بكل فخرٍ.
كَتَبَ مولانا عبد الله رأيه الذي تضمنه قرار الحكم في قضية “التيار” (19) صفحة كاملة هي تقريباً نصف الحيثيات الكاملة للحكم الدستوري التاريخي.. ثمّ اختار بعد ذلك أن يضمنه في كتاب أصدره قبل أشهر قليلة اشتمل على قضايا مُختارة شارك فيها طوال تاريخه القضائي العتيق.
كان مولانا عبد الله يدرك أنّ التاريخ يُسجِّل ويرصد وأنّ مثل هذه المواقف يرحل أصحابها وتبقى هي على مَــر الزمان تطالعها الأجيال و(تحكم!) على من سَطّروها.. فالقضاء ليس مجرد أحداث عابرة تفصل فيها أحكام قضائية عابرة، بل هو سجل يظل عبر الأجيال كتاباً مفتوحاً، يُخلِّد أسماء القضاة الذين صنعوه والقضايا التي سطّروا فيها مداد رأيهم.. من سجلات القضاء تقرأ الأجيال القادمة تفاصيل حياة الأمم السابقة.. ومنها (تحكم!) على رشدهم..
قَاضٍ مثل مولانا محمد أحمد أبو رنات – مثلاً – رحل منذ العام 1977 لكن اسمه لا يزال يتردّد كأنّه حي يُرزق بين ظهراني هذه الدنيا المُزدحمة بالأحداث والناس.. وأسماء ذهبية أخرى كثيرة لا يزال جيد القضاء يتلألأ بها رغم أنّ غالبيتهم رحلوا قبل سنوات.
ومولانا عبد الله أحمد عبد الله قبل آلام المرض تحمّل في نبلٍ كبيرٍ آلام الظلم الذي حَاقَ به من ما هو رائج في أحاديث الناس حول قضية التحكيم في قضية الأقطان.. والحقيقة مُختلفة تماماً عن الرواية السائدة ولكن ربما الزمن لم يحن بعد ليعلم الناس الحقيقة.. وقد تقدم باستقالته طائعاً مختاراً ليبعد المنصب الحسّاس عن مجرى القيل والقال.. رغم علمه أنّه بَرئٌ مما يُقال.
رحم الله مولانا عبد الله أحمد عبد الله بقدر رحمته الواسعة (لا كما يقول البعض بقدر ما قدّم من عمل..) وسينصفه التاريخ.. إن عجزنا نحن اليوم.