حيدر المكاشفي

جادين .. السياسي والمثقف المتواضع الزاهد


لقد شق عليَّ نعي العزيز جداً محمد علي جادين، رئيس حزب البعث السوداني، وأحد رموز ومؤسسي التيار القومي في السودان، السياسي والباحث السياسي السمح المتسامح والمترجم المرموق والعالم ببواطن علم الاقتصاد دارساً له بجامعة الخرطوم وعاملاً في مجاله بوزارة المالية، الذي غادر هذه الفانية (أم بناياً قش) يوم الأحد أول من أمس، إثر علة أذكر أنه عانى منها منذ مؤتمر جوبا (2009) الذي شارك فيه رؤساء ورموز الأحزاب السياسية المعارضة، بمن فيهم الترابي ونقد رحمهما الله، والصادق المهدي متعه الله بالصحة والعافية، وبسبب تلك العلة لم يكمل جادين جلسات المؤتمر وقطع مشاركته عائداً للخرطوم طلباً للاستشفاء، وقد ظل الفقيد الكبير العزيز طيلة ممارسته للعمل العام والسياسي سمح النفس، واسع البال، ملتزماً قضايا الشارع والجماهير، لقد كان بحق هو السياسي والمثقف العضوي الملتصق بهموم وطنه وشعبه، وكان مستقيماً متوازناً تكسو ملامحه سيماء الزهد والتواضع والهدوء والرزانة، التي تسم أحاديثه ونقاشاته مهما كانت سخونة المواضيع مثار النقاش ومهما علا صوت مناقشيه، كما كان منفتحاً على الجميع من كل الأطياف وكل الأعمار، وبقول واحد كان جادين من نوع البشر الذي يألف ويؤلف (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)…
ومن باب أولى فقد كانت للفقيد مساهماته الثرة في مجال المراجعات الفكرية لمنظومة الأحزاب البعثية، وكان من أبرز نتائج هذه المراجعات التي خاضها مع آخرين بروز مفهوم (العروبة السودانية) كتوطين لأطروحة (القومية العربية) في وضعية السودان متعدد الثقافات والأعراق ومن ثم بروز (حزب البعث السوداني)، وغير ذلك من إسهامات تنظيمية وسياسية مختلفة، هذا غير رفده للمكتبة السودانية وحركة التنوير بمجموعة تراجم محكمة، كان الفقيد كثيراً ما يزورنا بمقر صحيفة الصحافة (حين كنت أعمل بها)، وكان مع كل زيارة له يحرص على أن يغشى مكتبي سواء كان ذلك قبل أو بعد مجالسة صديقه ورفيق دربه الناقد والصحفي مجذوب عيدروس، وكان أكثر ما يلفت نظري في شخصه سودانيته الطاغية وبساطته المتناهية وتواضعه الجم، فقد كان رغم خبراته المتراكمة ومعارفه الموسوعية يستفسرني عند زيارته لي عن كثير من الشؤون العامة، كما يستفسر التلميذ أستاذه، وكان يستمع أكثر مما يتحدث، وتلك لعمري هي صفات العلماء، ألا رحمك الله يا جادين بقدر ما قدمت وبذلت وصدقت، وبوأك مقعد صدق بين الصادقين، وتعازينا الصادقة موصولة لأسرته ورفاقه في الحزب ولجماهير الشعب السوداني التي فقدت برحيله سودانياً قحاً وأصيلاً…