جعفر عباس

القصيبي رثا نفسه قبل موته بخمس سنوات


رددت مرارا عبر زاويتي هذه وفي أحاديثي مع الأهل والأصدقاء، أنني لا أعتد ولا أهتم بعمري المسجل في شهادة ميلادي، ولكنني استدرك بيني وبين نفسي متذكرا الاحداث الجسام التي شهدتها وعاصرتها في وطني وبقية الزرائب من حوله، ولكنني لا أصيح: يا للهول! معقولة أني كنت شاهدا على كل تلك العصور، بل أحس بأن الله أكرمني وشهدت تحولات عميقة على مستوى العالم بأكمله.
وكل ما في الأمر هو أنني لا أحس في دواخلي بأنني متقدم في العمر، بل – وكما قلت مرارا في مقالاتي – لا أحب مجالسة جماعة «راحت علينا»، ولكن الحبيب الغائب – الحاضر غازي القصيبي رحمه الله، كان قد زودني بقصيدة بخط يده قبل نشرها في أي مطبوعة، وكلما قرأتها تطعنني في الصميم.
القصيدة عنوانها يسد النفس: «حديقة الغروب» أي غروب يا صديقي؟ «خمس وستون في أجفان إعصار/ أما سئمت ارتحالا أيها الساري؟» رددت على غازي برسالة ناقشت فيها القصيدة وقلت له: لا حول ولا قوة إلا بالله، فعلاً لا يحسد المال إلا صاحبه، تنق وتشكو لبلوغك الخامسة والستين؟ جعلت من نفسك غازي بن ربيعة العامري: ولقد سئمت من الحياة وطولها/ وسؤال هذا الناس كيف قصيبي! لبيد شكا من طول الحياة وقد تجاوز التسعين، وابن خالتك زهير بن أبي سلمى لم يبدأ النق إلا عندما تجاوز الثمانين، وأنت «تقر» على نفسك على 65 سنة؟ عيب يا رجل، فكلنا نرفع أيدينا بالدعاء بأن يتم تفنيشك من الوزارة لتتفرغ لنا وتقول لنا ما تعودنا أن نسمعه منك لنمتلئ أملا وتفاؤلا! شكوت من قبل في قصيدة من أن شابة نادتك بـ «عمو» فقلنا ما فيها شيء طالما أنها لم تقل «يا جِدُّو» رغم أن هناك مستندات بخط يدك تؤكد أنك جد مزمن، ولا تثريب عليك في كونك صرت جدا في سن مبكرة، لأن تلك ضريبة إنجاب البنات، فالبنت قد تأتي في الترتيب بعد ولدين ولكنها تسبقهم إلى الزواج والإنجاب، فتصعد بوالديها إلى مرحلة عمرية أعلى. ولكن أن ترفع الراية البيضاء على رؤوس الأشهاد وتقول كلاماً محبطا لبنت هي «الفجر في تنفسه» وبها كل «ما في الأنوثة من سحر وأسرار/ ماذا تريدين مني إنني سبِح؟ يهيم ما بين أغلال وأسوار/ هذي حديقة عمري في الغروب.. كما/ رأيت، مرعى خريف جائع ضار(ي)/ الطير هاجر والأغصان شاحبة/ والورد أطرق يبكي عهد آذار!
شبح وغروب وخريف وجوع وضياع وهجرة وشحوب وبكاء وعهد تصرم؟ بصراحة يا غازي هذا كلام «غير مسؤول»، ومشبع بفيروسات الاحباط، التي تسبب الاكتئاب للآلاف من أبناء جيلك، وكثير منهم مازالوا يصبغون شعر رؤوسهم بل ويستخدمون البوتوكس لشد الوجه للتخلص على وجه خاص من تلك الأكياس السخيفة التي تنبت أسفل العينين.
ولي صديق يزعم أنه فيلسوف يقول إنك لو سمعت رجلاً متزوجاً لأكثر من عشرين سنة يتغزل بزوجته فاعلم أنه يعلن الاستسلام لتصاريف الزمان: أيا رفيقة دربي لو لديّ سوى/ عمري لقلت فدى عينيك أعماري/ أحبتي وشبابي في فتوته/ وما تغيرتُ والاوجاع سماري! بالتأكيد فإن زوجة صبرت على شطحات خيال شاعر مثل القصيبي لم يتردد يوماً في قول ما يريد أن يقول دون لف أو دوران.. «إن ساءلوك فقولي: لم أبع قلمي/ ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري»، زوجة كهذه جديرة بالتقدير والعرفان، ولكن جو القصيدة العام أقرب إلى مرثية ذاتية، ففيها ثلاثة أبيات تبدأ بـ «وإن مضيت فقولي….»، بعد عمر طويل يا غازي، والله يسمع منك وأنت تقول: ويا بلاداً نذرت العمر زهرته/ لعزّها.. دمت.. إني حان إبحاري!
قلت له في رسالتي تلك: نسأل الله أن يكون إبحارا يبعدك عن العمل الرسمي للتفرغ لنا عشاق قلمك الساحر الساخر. (توفي غازي إلى رحمة مولاه بعد كتابة هذه القصيدة بخمس سنوات).