أبشر الماحي الصائم

الدين المعاملة


من مقالة رصينة للأستاذ زاهر بن حارث المحروقي، أقتطف هذا الجزء الذي أراه يخاطب واقعنا، ويتوافق مع مدلولات شهر الصيام التي تتمحور حول مضمون.. (لعلكم تتقون).. وإلى مضابط المقال.. يقول المحروقي:
* في الشهر الماضي حدث موقفان في بريطانيا، لهما دلالة خاصة، وهي أنّ بعض الغربيين يتعاملون مع الناس معاملة أخلاقية فيها من الدِّين ما فيها، وهي التي سماها د. محمد راتب النابلسي بـ (العبادات التعاملية)؛ فيما نجد عندنا أنّ بعض الناس يتعبدون الله بـ (العبادات الشعائرية) فقط وينسون المعاملة، كأن يركزوا على الصلاة والصيام والحج مثلاً، فيما تكون معاملاتهم اليومية عكس ذلك تماماً.
الموقف الأول هو أنّ ابني نزل فندقاً في أدنبرة يديره رجلٌ وعائلته؛ وبعد مغادرته الفندق إلى منطقة أخرى، تفاجأ باتصال من صاحب الفندق الأول يخبره فيها أنّه نسي سجادة الصلاة، وطلب منه عنوانه الجديد حتى يرسل له السجادة. (وهذا بحد ذاته شيء محمود.) وهذا ما كان، إلا أنّ ابني تفاجأ برسالة طويلة مع السجادة يقول فيها الرجل إنّه لم يلمس السجادة إلا بعد الاغتسال حتى لا يكون في لمسه للسجادة دون طهارة إيذاءٌ لشعائر المسلمين.
* أما الموقف الثاني فقد نسيَتْ ابنتي وزوجُها داخل سيارة أجرة في لندن، حقيبة يدوية بها جوازاتهما وبعض المال، وفي القطار اكتشفا الأمر فعادا إلى المكان نفسه، فإذا بسائق سيارة الأجرة بانتظارهما، لأنّه علم بأنهما سيعودان. وهذا الموقف ذكّرني بموقف سابق حدث لوالدي – رحمه الله – في أخريات أيامه، عندما أنزلته سيارة أجرة أمام بيتنا في روي، فنسي فيها ملفاً طبياً كاملاً به أشعة وبعض التقارير الطبية المهمة؛ ورغم أنّ السائق عرف البيت، وفي الملف الاسم الكامل ورقم الهاتف إلا أنّه لم يعد، وظلّ أبي حتى وفاته ينتظر أن يعود صاحب السيارة، لكنه لم يعد، فاختفى الملف والأشعة إلى الأبد.
* وأعتذر للقارئ العزيز بأني افتتحت المقال بحكايات شخصية؛ إلا أني أجدها جوهرية، فقد صادف الآخرون مواقف كثيرة مشابهة للموقفين، وكلها تخدم غرض المقال.. فهل تصلح العبادات الشعائرية أو تفيد، إذا لم تصاحبها العبادات التعاملية؟ هذا سؤال مهم؛ فلا يُغني أن تكون المساجد ملآ بالمصلين، في وقت نجد فيه أنّ تعاملهم ومعاملاتهم تتنافى مع شعائر الدين. وقد يكون هذا واضحاً جداً في المجتمعات الإسلامية، التي يُفترض أن تكون القدوة، لأنها مهبط الوحي؛ فما يُنشر عن الفساد فيها ليس قليلاً، إذ عمّ كلَّ القطاعات، فأصبحت الرشاوي شيئاً عادياً، ممّا جرّ الفسادَ -نتيجة لذلك- إلى أن يصل لكلِّ شيء، من الغش في السلع وفي الأدوية، وإلى شراء الذمم، بل وصل إلى القضاء نفسه، لأنّ التركيز صار على العبادات الشعائرية دون التركيز على العبادات التعاملية !!
وفي هذا يرى المفكر المغربي سعيد أنّ العبادة الشعائرية لا تصح ولا تُقبل إلا إذا صحت العبادة التعاملية، وفي مقطع على اليوتيوب يقول: حديثٌ في صحيح مسلم يقرؤه الناس،، ويسمعون شرحه، ومع ذلك يفهمون أنّ الدين هو أن تصلي، وأن تصوم، وأن تؤدي العبادات، مع أنّ هذا الحديث الشريف فيه من العمق والخطورة، ما يحمل الإنسان على أن يعتقد أنّ التدين الصحيح في المعاملة. يقول عليه الصلاة والسلام: “أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ فقالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إنّ المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة؛ بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم؛ فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار”، كلامٌ واضحٌ كالشمس؛ إنسان يغتاب ويطعن ويأكل ما ليس له، إنسان في الإرث يأخذ النصيب الأكبر بدعوى لا قيمة لها، إنسان غمَّاز لمَّاز؛ ويصلي، ويصوم، ويحج كلَّ عام، ومصيره إلى النار، فالدينُ عبادات تعاملية، إن صحت صحت العبادات الشعائرية؛ والعباداتُ التعاملية هي أن تكون صادقاً وأميناً وعفيفاً ومنصفاً ورحيماً ومتواضعاً، وعندما تصح هذه العبادات التعاملية تصح الشعائر التعبدية.. وهذا المعنى -حسب النابلسي- يفتقر إليه المسلمون كثيراً، فهم يتوهمون أنّ كلَّ من صلى فهو مسلم وأنّ الدين هو الصلاة فقط؛ فالمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمنُ من أمِنه الناس على أموالهم وأعراضهم، أي الصفة الصارخة في المؤمن ليست صلاته ولا صيامه ولا زكاته ولا حجه – رغم أهمية ذلك-؛ فالصفة الصارخة تكمن في صدقه وأمانته وعفته.