حوارات ولقاءات

الروائي والناقد هشام آدم: أنا أخضع لمنافسةٍ غير شريفةٍ مع زملائي الكُتَّاب.. النَّقد ليس عِلمًا أكاديميًا؛ بل أراه فنًا يُتقنه كُلُّ من لديه شغفٌ بالقراءة


** الروائي والناقد الشاب هشام آدم من العلامات البارزة التي تزين المشهد الأدبي السوداني في السنوات العشر الأخيرة، فقد صدر له ست روايات من دور نشر مختلفة وهي (أرتكاتا) و(السيدة الأولى) و(أرض الميّت) و(بتروفوبيا) و(قونقليز) وهي الرواية التي حصلت في العام 2010 على جائزة الطيب صالح للرواية التي ينظمها مركز عبد الكريم ميرغني، ثم أخيراً رواية (كاجومي) والتي حصلت في العام 2015 على المرتبة الثانية في جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي التي تنظمها شركة زين للاتصالات. بجانب كتابة الرواية، يهتم هشام آدم بالنقد الأدبي وقد صدر له حديثاً كتاب (هرطقات في النقد الأدبي المعاصر). (اليوم التالي) التقت الروائي هشام آدم وطرحت عليه بعض الأسئلة المتعلقة بمشاريعه الإبداعية وبهموم المشهد الأدبي عموماً.
نعيش الآن ما أسماه جابر عصفور بـ”عصر الرواية”، كيف تُفسر هذا الانفجار الكبير في كتابة الرواية، وفي تصدرها المشهد الأدبي متفوفةً على أجناس أدبية أكثر رسوخاً مثل الشعر والمسرح والقصة؟
هنالك عواملٌ كثيرةٌ ساعدت في ما أسميته بالانفجار، وكُلُّ عاملٍ من هذه العوامل مُرتبطٌ بعُنصرٍ ما، بحيث يُمكن البدء بهذه العناصر أو الانتهاء إليها. فمن جانبٍ ما؛ فإنَّ الأمر مُتعلق بالسُّوق، فسوق السَّرديَّة يلقى رواجًا لا يلقاه سوق المسرح أو الشعر؛ وبالتَّالي هنالك تشجيعٌ من النَّاشر لطباعة السَّرديَّات لا يلقاه الشَّاعر أو المسرحي أو حتَّى النَّاقد في أحيانٍ كثيرة، وقد يكون هذا التَّشجيع مصحوبًا ببعض التَّسهيلات التي يُقدّمها النَّاشر للكاتب. هذا الأمر -كما قلتُ- محكومٌ بالسُّوق الذي يخضع لفلسفة العرض والطَّلب، وفي اعتقادي أنَّ هذا الأمر بدأ مُنذ عصر نجيب محفوظ الذي تمت مُعالجة كثير من سرديَّاته دراميًا، وقُدّمت إلى الجمهور كأفلامٍ سينمائيَّةٍ، ثمَّ بلغ الأمر ذروته مع السَّارد علاء الأسواني، وما لاقته سرديَّته (عمارة يعقوبيان) من نجاحٍ مُنقطع النَّظير من النَّاحية السينمائيَّة، ثمَّ الكاتب أحمد مُراد وسرديته (الفيل الأزرق). هذا الأمر يُعتبر إغراءً ماديًا للكثيرين، لأنَّه يُوفر الشُّهرة والمال في ضربةٍ واحدةٍ، وهو ما ساهم -في تقديري- في توجه الكثيرين إلى فن السَّرد. وفي المجال نفسه – أيضًا- أسهمت الجوائز الماليَّة الكبيرة والمشهورة المُخصَّصة لفن السَّرديَّة: جائزة البوكر العربيَّة، جائزة نجيب محفوظ، جائزة كتارا، جائزة الطيب صالح، جائزة الشَّارقة للإبداع العربي وغيرها من الجوائر ذات القيمة الماديَّة الكبيرة المغرية، وهو مما ساعد كثيرًا على رواج فن السَّرديَّة، وهو أمرٌ جيدٌ ومطلوب. ومن ناحيةٍ أُخرى فإنَّ رواج الفن السَّردي – في اعتقادي- عائدٌ إلى استسهال الكثيرين لهذا الفن، والتَّعامل معه على أنَّه ضربٌ من ضروب “الحكي”، وهو ما أدى – في رأيي – إلى تغبيش مفهوم السَّرديَّة ووظيفتها لدى الجمهور أيضًا، وهذا يتضح جليًا من نوع المنتج المتاح الذي يُعتبر أغلبه – في رأيي – ثرثرةً لا علاقة لها بالأدب السَّردي، مع افتقاد جُل الكُتَّاب إلى تقنيات الكتابة الإبداعيَّة السَّرديَّة، وأهدافها؛ بل وحتَّى افتقادهم إلى المعرفة المطلوبة بفنون اللغة العربيَّة نفسها، والإملاء.
كيف تنظر لحركة النقد المصاحب لهذا الانفجار الروائي خصوصاً أنك ناقد ممارس وأصدرت حديثاً كتاباً قي نقد النقد أسميته “هرطقات في النقد الأدبي المعاصر”؟
تُسجل حركة النَّقد – مُنذ فترةٍ طويلةٍ- تراجعًا واضحًا، ومُخزيًا، في مُقابل حركة الكتابة الإبداعيَّة. ولا أشك أنَّ النَّقد العربي يُعاني من مُشكلاتٍ، حاولتُ بسطها -بشيءٍ من الإسهاب والتَّفصيل- في كتاب الهرطقات، ولكن أقول -بشكلٍ عامٍ- إنَّ النَّقد انحصر -أو يكاد- في نوعين لا أرى لهما ثالثًا. أولهما نقد الإخوانيات: وهو نقد المجاملات الذي يُقدمه النَّاقد لأصدقائه أو معارفه من الكُتَّاب، وهذا النَّوع من النَّقد يهدف إلى تلميع الكاتب، ولا علاقة له بوظيفة النَّقد. وثانيهما نقد النُّصوص عبر الشُّخوص، وأعني به الاهتمام بالسَّرديَّات الحاصلة على جوائز أو تلك التي أحدثت دويًا في إحدى وسائل الإعلام أو مواقع التَّواصل الاجتماعي، أو تلك التي تعود إلى كُتَّاب معروفين ومشهورين، وهذا النَّوع من النَّقد يهدف إلى تلميع النَّاقد لنفسه، ولا علاقة له بوظيفة النَّقد. وفي رأيي الشَّخصي فإنَّ النَّاقد والنَّقد الذي يهتم بتسليط الضَّوء على النُّصوص الجيدة المغمورة لم يعد موجودًا تقريبًا، وتلك مُشكلة كبيرة جدًا، فلم نعد نر أو نسمع بناقد يقرأ لكُتَّاب مغمورين بحثًا عن النُّصوص الجيدة؛ بل أغلبهم يكتفون فقط بقراءة النُّصوص ذائعة الصيت، أو تلك التي يُهديها لهم أصدقاؤهم ومعارفهم.
كرست جزءاً كبيراً من كتاب الهرطقات في الهجوم على النقد الإكاديمي وفي ما أسميته أنت “تخليص النقد من العلم”، أليس في الإمكان أن يتجاور النقد الإكاديمي مع ما أسميته أنت بالنقد الفني؟
لا أعتقد ذلك. ولكن قبل أن أسهب في شرح ذلك، أرى أنَّه من الضَّرورة توضيح الأمر لمن لم يقرأ كتاب الهرطقات، فأنا لا أرى النَّقد عِلمًا أكاديميًا؛ بل أراه فنًا يُتقنه كُلُّ من لديه شغفٌ بالقراءة، والقارئ هو الوحيد من يستطيع أن يُقيم العمل الأدبي، دون الحاجة إلى اللجوء للآراء النَّقديَّة الأكاديميَّة. وعلى هذا فإنَّ النَّقد الفني مُتجاوزٌ فعلًا للنَّقد الأكاديمي، وقد نرى ذلك في ردود الأفعال الكثيرة من القراء على سرديَّاتٍ لاقت مديحًا، وحظًا من النَّقد الأكاديمي، أو حتَّى تلك التي نالت جوائز، بعد مرورها بنقدٍ أكاديمي من لجنة التَّحكيم، جعلها أفضل من غيرها، وكثيرٌ من مثل هذه الأعمال لم تلق قبولًا لدى القراء، ورغم ذلك أرى أنَّه من الواضح -بالنسبة إليَّ- هيمنة ما يُسمَّى بالنَّقد الأكاديمي على حساب النَّقد الفني، وهو – تحديدًا – ما أُحاول أن أُخلص الأدب العربي منه، ليتحرَّر القارئ من سُلطة النَّقد الأكاديمي؛ ليكون النَّقد مِلكًا للجميع، كما يجب له أن يكون، فسًلطة النَّقد الأكاديمي -من وجهة نظري- هي من صنعت – في تراثنا – أيقوناتٍ مُقدسةٍ يُعتبر المساس بها جريمةً يستحق عليها مرتبكها التَّوبيخ، والتَّقريع، واتهامه في ذائقته الأدبيَّة والفنيَّة الخاصة.
تقدّم أكثر من ستين روائيًا سودانيًا بأعمالهم، بغرض المنافسة للحصول على جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الثَّانية، والتي تنظمها قطر، كيف تنظر لهذا الأمر؟ وهل تقدمت بعمل من أعمالك الروائية؟
لا أرى بأسًا في ذلك؛ لاسيما وأنَّني أحدهم. الجوائز الأدبيَّة -حاليًا- تقوم مقام النَّاقد الغائب، وتلعب دوره المفقود، وهي طريقةٌ سريعةٌ للانتشار والوصول إلى القراء؛ لاسيما في ظل الغياب التَّام للحركة النَّقديَّة الجادة، ذات الوظيفة الاستكشافيَّة.
يسعى كثير من كتاب الرواية في السودان، وربما في أقطار أخرى من العالم العربي إلى طرق ثيمات تستهوى القارئ الغربي طمعاً في ترجمة أعمالهم إلى اللغات الأوروبية، ومن ثم الوصول إلى العالمية، كيف تنظر لهذا الأمر؟
إن كان هذا يحدث فعلًا؛ فهو ابتذالٌ لاشك فيه عندي، ولكن يحدث أن يُترجم الكاتب سرديَّته على نفقته الخاصة أيضًا، وهنا لا يتطلَّب الأمر تماهيًا مع الآخر أو رضوخًا لشروطه الفنيَّة أو الثقافيَّة، كما دخلت الأخوانيات مجال التَّرجمة، فأصبح بعض المترجمين يُترجمون لأصدقائهم أو لأصدقاء أصدقائهم. الترجمة -كما أراها- هي حلم كل كاتب، وهي -بالتَّالي- حلمٌ مشروع، وميزة التَّرجمة هي أنَّها تُقدمكَ إلى العالم الذي تُرجم عملك إلى لغته. أيُّ تلاعبٍ في هذه العملية “الإبداعيَّة” يهدم الفكرة في مُجملها ويجعل منها صناعةً أو تجارة.
هل كانت هجرتك الى بلجيكا قسرية أم اختيارية؟ وكيف تُقيم تجربة هجرتك على مشروعك الإبداعي والفكري؟
يُمكن أن أُسميها قسريةً؛ رغم أنَّها لم تكن كذلك تمامًا، فبعد مغادرتي السعودية حيث كنتُ أُقيم وأعمل، لم أجد أمامي إلَّا الهجرة، أمَّا عن هجرتي فهي -حتَّى اللحظة- لم تُقدم لي شيئًا جديدًا، لا على مستوى مشروعي الأدبي، ولا حتَّى على مستواي المعرفي أو الإنساني. وبشكلٍ عام؛ لا أفهم كيف يُمكن أن يساهم وجودكَ في مكانٍ ما على إبداعك؛ لاسيما في مجال الكتابة. أعتقد أنَّ الرهان الحقيقي لكُل كاتب هو في مقدار ونوع ما يقرأه، وليس في البيئة التي يعيش فيها، طبعًا إن لم تكن البيئة التي يعيش فيها تُؤثر سلبًا أو إيجابًا في مقدار أو نوع ما يقرأ.
تعكف حالياً على كتابة روايتك “غابة التيستيسترون”، هل تسير فيها على نسق الرواية الفلسفية النفسية الذي وسم روايتيك الأخيرتين “قونقليز” و”كاجومي”؟ وماذا ستضيف هذه الرواية لمشروعك الروائي؟
دون أن أشعر أجد نفسي مُجبرًا على سبر الأغوار النَّفسيَّة لشخصيَّات نصوصي، وأعتقد أنَّ سرديَّة (غابة التيستيسترون) لا تخلو من ذلك أيضًا. الإنسان -كإنسان- أعتبره مادةً سرديَّة غنيَّة جدًا، ولهذا أعيش داخل كُل شخصيَّةٍ من شخصيَّاتي، وأتفاعل معها نفسيًا، قبل أن أرسمها على الورق، وأحيانًا تتلبَّسني بعض الشَّخصيَّات لفترةٍ طويلةٍ، كما حدث لي مع شخصيَّة شرف الدين بابو، بطل سرديَّة (قونقليز). إنَّ مُحاولات “خلق” شخصيَّةٍ يتمكَّن القارئ من التَّماهي والتَّعاطف معها، بحيث يُمكنه تصوُّرها أو رسم صورةٍ ذهنيَّةٍ لها، وكذلك إمكانيَّة التَّنبؤ بسلوكها ضمن أحداث السَّرديَّة بناءً على المعطيات الدَّقيقة المتاحة في السَّرد، هو نجاحٌ كبيرٌ للكاتب.
وأين وصلت في كتابة مؤلفك “عندما أخطأ الأستاذ” حول مشروع محمود محمد طه الفكري؟ وماذا تريد أن تقول في هذا الكتاب؟
للأسف؛ فقدتُ مسودة الكتاب، بعد أن تجاوَزتُ نحو مائةٍ وخمسين صفحةٍ، عندما تعرَّضتُ لسرقةٍ في محطة قطار (كولون) بألمانيا، ولم أحاول إعادة ما فُقد بعد. الكتاب محاولةٌ لنقد بعض أفكار الأستاذ محمود محمَّد طه، والتي يزعم فيها بأنَّ الإسلام رسالتان، وأنَّ النُّصوص المكيَّة المنسوخة إنَّما هي مُؤجلة وليست ملغاة، وكُلُّ الأفكار المُترتبة على هذه الفكرة؛ لاسيما اعتماده على حديث (طوبى للغرباء) للاستدلال على صحَّة فكرته (الغريبة).
تكتب علي غلاف صفحتك في الفيس بوك باللغة الفرنسية أنك روائي غير محظوظ (romancier malchanceux) ماذا تقصد بذلك؟
أعتقد أنَّني أخضع لمنافسةٍ غير شريفةٍ مع زملائي الكُتَّاب، وعندما أقول: “غير شريفة” فأنا حتمًا لا أقصد المعنى السَّيئ للعبارة، ولكن يبدو أنَّ الكتابة النَّاجحة، أو بالأصح، شروط الكاتب النَّاجح مُختلفةٌ كثيرًا، عمَّا أعرف وأؤمن. فالمنافسة هنا ليست في نوعيَّة ما يُكتب، ولكن تتدخّل عوامل كثيرةُ لتصنع الكاتب النَّاجح، ولا أرى نفسي ممتلكًا لهذه العوامل، فبطريقةٍ ما، كانت أفكاري سببًا في إقصائي في كثيرٍ من الحالات عن السَّاحة الأدبيَّة؛ لاسيما السُّودانيَّة، بالإضافة إلى أنَّني طائرٌ بلا أجنحة، وأجنحة الكاتب النَّاجح هي علاقاته الشَّخصيَّة سواءٌ بالنُّقاد، أو المترجمين، والتصاقه الحميم بمجموعة الكُتَّاب، أو حتَّى الأصدقاء الذين قد يُساعدونه بطريقةٍ أو بأُخرى، وأنا بعيدٌ عن كُل ذلك. إضافةً إلى حظي السَّيء في تجاربي مع النَّاشرين، مما أدَّى إلى عدم انتشار أعمالي بالشَّكل المطلوب، فإصداراتي لا تصل إلى القراء بذات السُّهولة التي تصل بها إصدارات الزُّملاء الآخرين من الكُتَّاب، ولم تُفلح مُحاولاتي في مُعالجة هذا الأمر. وأخيرا؛ عدم تسليط الضَّوء الكافي على أعمالي بالنَّقد؛ حتَّى تلك الحاصلة على جوائز، وابتعادي عن الوسائل الإعلاميَّة. كُل هذه العناصر مُجتمعةً وغيرها، جعلتني أشعر بالظُلم والإجحاف، وأنَّني ساردٌ عاثر الحظ.

اليوم التالي