تحقيقات وتقارير

“صنع في السودان” .. هل تعود الديباجة؟ بعكس ما يتردد دائمًا.. يرى د. عبده داود وزير الدولة بوزارة الصناعة أن السودان يقع ضمن المرتبة الثالثة في القائمة الصناعية


كلمات تكتب بالخط العريض حين استقبال أحد المسؤولين، وكثر ترديدها على ألسنتهم حتى ظن الكثيرون أنها كلام مقدس، وفي الأثناء يهتف أحدهم، وكالمعتاد يردد خلفه الحاضرون بحماس شديد: (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) دون أن يتأملوا ما تحتويه تلك العبارة من معان غير واقعية، يبدون فقط وكـأنهم تجمعوا وهتفوا إكرامًا لذلك المسؤول كونه ضيفا عليهم. ذات المشهد يتكرر عادة في الأرياف وأطراف المدن أكثر مما هو في داخلها، رغما عن تجاهل متطلباتهم من قبل ضيوفهم الكرام.

(1)
إلاّ أن الكثيرين يرون أن وزارة الصناعة سعت مؤخرا جاهدة للنهوض بذات القطاع المهم في استقرار اقتصاد البلاد، وتجلى ذلك في فعالية (صنع في السودان) التي نظمت على أرض المعارض ببري.
بالمقابل وبحسب خبراء اقتصاديين فإن ﺍﻟحظر الأمريكي أثر سلبا ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻄﺎﻉ ﺍﻟﺼﻨﺎﻋﻲ في البلاد ﺧﺎﺻﺔ في ما يلي المصانع ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻤﻨﺸﺄ ﺍﻷﻣﻴﺮﻛﻲ ﺃﻭ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ، حيث توقف بعضها تمامًا نتيجة العجز عن ﺍﺳﺘﻴﺮﺍﺩ ﻗﻄﻊ غيار ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ، مؤكدين على تضرر أكثر من ألف مصنع بشكل مباشر أو غير مباشر، ﻤﺎ ﺃﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻧﺨﻔﺎﺽ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﻭﺗﺴﺮﻳﺢ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻭﻓﻘﺪﻫﻢ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﻢ. وبهذا أضحى السودان يعتمد على الصناعات الصينية وغيرها، ومعظمها من الدرجة الثالثة، ما أدى إلى تراجع الصناعات المحلية بدرجة كبيرة.

(2)
رغم أنها من أنها الأقدم والأهم في السودان، إلا أن صناعة الزيوت تراجعت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، ﺑﺪﺃﺕ هذه الصناعة ﺃﻭﺍﺋﻞ ﺜﻼﺛﻴﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﺑﻤﻌﺎﺻﺮ ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻓﻲ ﺇﻧﺘﺎﺝ زيوت ﺍﻟﺴﻤﺴﻢ ﻭﺍﻟﻔﻮﻝ، وعقب إنشاء مشروع الجزيرة أدخلت بذرة القطن كخام جديد للزيت، أما المعاصر الحديثة فدخلت الإنتاج في التسعينيات، رافقتها وحدات تكرير ذات كفاءة عالية، ومن قبلها في الثمانينات، أدخل المذيب العضوي لاستخلاص الزيت وتقليل كمية الأمباز إلى 1 %.

في السياق يعزو سليمان عثمان مدير مصنع سوبا للزيوت، عدم التطور والمواكبة إلى غلاء الماكينات الحديثة نتيجة لارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه، بسبب المقاطعة، بجانب ارتفاع تكلفة التصنيع وما يعقبه من ضرائب، عليه يكون المنتج المستورد أقل سعرا، والكل يعلم ثقافة المستهلك فهي (رقمية) وما يعنيه ثمن المنتج فقط ولا تهمه الجودة، وزاد: تعتبر الضرائب من معوقات الصناعة في البلاد، بحانب تعسر فتح الاعتمادات في البنوك عندما ترغب في استيراد ماكينات أو غيرها، فأصبح ملاك المصانع القديمة خارج دائرة التشجيع الاستثماري، ما يعني ضرورة دعم المصانع الجديدة لخمس سنوات، إلا أن تلك السياسة لا تنجح دائمًا فجل تلك المصانع المدعومة تعمل لفترة السنوات الخمس فقط وبعدها تتدهور حتى تتوقف نهائيا.
(3)
أهم أسباب عدم تطور المصانع ـ والحديث لا يزال لعثمان ـ هو الإصرار على التمسك بالأنظمة القديمة، وإذا قررت تحديث المصنع وتغييير الماكينات فبلاشك ستكون من الخاسرين، ويستطرد عثمان: كل السياسات غير مساندة للتطوير وأبسط مثال توقف إبادة الحشرات من خلال الرش العام بالطيران، لأن إبادتها داخل المخازن كما نفعل الآن غير مجدية بسبب زحف حشرات المخازن الأخرى من حولنا، لذلك نلجأ لتخزين المنتج أكثر من تخزين الحبوب، في حين أنه لابد من تخزينها لضمان استمرارية الإنتاج، وأضاف: نناشد من يهمهم الأمر بالمساواة في الضريبة بين المنتج والمستورد لأن المستهلك يهمه السعر الأقل، والآن ما يقارب 40 % من المصانع متوقفة، فقط تعمل عندما يبدأ بيع المخزون حال شحه في الاسواق، ويرجع عثمان سبب العجز إلى وارد الزيوت الكبير واستهلاك الدولار في الصدد، بدلا من الاستفادة منه في استيراد أغراض أخرى وبالمقابل تشجيع التصنيع المحلي، وختم: كذلك تعدد جهات الجبايات يمثل عبئا آخر ويؤدي لزيادة تكلفة التصنيع.

(4)
إلى ذلك يشدد د. عبده داود وزير الدولة بوزارة الصناعة، على أنه من الأهداف ﺍﻻﺳﺘﺮﺍﺗﻴﺠﻴﺔ لوزارته، تنويع وتطوير ﺍﻟﻘﻄﺎﻉ ﺍﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ﻛﻤﺎ ﻭﻧﻮﻋﺎ لتحقيق الاكتفاء ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻠﻊ، ﻭدﻋﻢ ﺻﺎﺩﺭﺍﺕ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﻭﺗﻮفير ﻓﺮﺹ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ويرى أن السودان يحظى بالمرتبة الثالثة من حيث القائمة الصناعية، رغم الحصار الاقتصادي، وأردف: القول إن الحصار أثر على الصناعة غير صحيح، لأنها بدأت بعد الحرب العالمية الثانية كبديل للمنتج المستورد، وإذا تابعنا كل الدول التي تعرضت لحصار نجدها أبدعت وتقدمت لأن الحاجة هي أم الاختراع، وعزا وزير الدولة بالصناعة تراجع إنتاج مصانع الزيوت إلى المضاربات في أسعار الحبوب الزيتية، فكان أن تجاوزت الأسعار العالمية بكثير، لذلك أصبح تصنيعها مكلفا مقارنة بالمستورد، وكشف عبده داود عن اتفاق بين وزارته ووزارة المالية من أجل تشغيل المصانع المتوقفة بطاقاتها القصوى، لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وعلق على معرض (صنع في السودان) بقوله: عكس صورة لقوة الصناعة المحلية من خلال عرض استمر خمسة عشر يوما على غير العادة، وهذا يؤكد نجاحه وبالتالي الصناعة المحلية، مشيرًا إلى أن المعرض حقق أهدافه المتمثلة في التعريف بالصناعة السودانية، بالإضافة لتقديم سلع معقولة، وأن عدد زائريه بلغ 250 ألفا ما يدل على نجاحه.

الخرطوم – خالدة ود المدني
صحيفة اليوم التالي